التفسيـر بالرأي والتفسير الاجتهادي

HDS

ساجد صباح ميس

ورد الكثير من الأحاديث التي قد تصل الى حد التواتر من الفريقين عن النبي(صلى الله عليه وآله) والأئمة(عليهم السلام) التي تحظر التفسير بالرأي، فعن الرسول(صلى الله عليه وآله) أنه قال: (من فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب).
وعن ابي عبد الله الصادق(عليه السلام) أنه قال: (مَنْ فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يُؤجَر وإن أخطأ خرّ أبعد من السماء).

 

ماهية التفسير بالرأي:
ما المقصود بالتفسير بالرأي، أهو ما يقابل التفسير النقلي كالتفسير الاجتهادي أم هو أمر آخر ؟
وعند الرجوع للقرآن الكريم نجد في آياته دعوة للتفكر والتدبر وإعمال الفكر للوصول الى حقائق القرآن كقوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) «محمد/24» وقوله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) «ص/29».
وعليه فلا بد من ان يكون المقصود بالتفسير بالرأي غير التفسير الاجتهادي.
وقد قسم العلماء وفق ما تقدم من آيات وروايات التفسير الى شقين هما: التفسير الجائز، وهو ما يسمى بالتفسير الاجتهادي، ونقصد به بذل الجهد واستخدام قوة العقل في فهم آيات القرآن ومقاصده من خلال تتبع ظواهر القرآن وحكم العقل الفطري مع موافقة القرآن والسنة ومراعاة سائر الشروط.
والنوع الثاني: التفسير الممنوع، وهو الذي حذرت منه النصوص المتقدمة، وليس هو مما يقابل المنهج النقلي كما يرى بعضهم مما دعاهم الى رفض المنهج الاجتهادي في التفسير كما يفهم من أقوال بعض الاخباريين.
انما المقصود بالتفسير بالرأي المنهي عنه هو محاولة تفسير الكتاب الكريم مع جهل المفسر بقواعد اللغة واصول الشرع واصول التفسير الأخرى، أو هو تفسير الكتاب مع الجزم بأن مراد الله هو كذا من غير برهان قطعي.
فالروايات الواردة عن المعصومين في النهي عن التفسير بالرأي إنما تقصد التفسير بالرأي الممنوع لا التفسير الاجتهادي.

أنواع التفسير بالرأي المنهي عنه:
وللتفسير بالرأي المنهي عنه ألوان عديدة منها: تفسير القرآن الكريم وفق القابليات التي تحصّل عليها المفسر في مجال اللغة والأصول.. الخ. فإن الكثير من المفسرين يفسر بعض الآيات -وخصوصا المتشابه منها- وفق الاتجاه العقائدي الذي ينتسب اليه المفسر مع ان ذلك قد يخالف القرآن نفسه ويخالف ما ثبت بالسنة الصحيحة.
ومن ذلك المنهي عنه الجزم بالمراد الإلهي من دون دليل، فإن هناك من الألفاظ والتراكيب ما يحتمل اكثر من معنى فإن ترجيح أحد المعاني من دون دليل ومن دون الرجوع الى القرائن العقلية أو النقلية يعد من ألوان التفسير بالرأي المنهي عنه.
ومن الألوان المنهي عنها التفسير وفق ظواهر اللغة مع ان اللغة لا تكشف إلا مستوى معيناً، وليست الفيصل والمرجح الأساسي في فهم القرآن، فالكثير من الألفاظ لا يمكن ان تفسّر وفق ظاهر اللغة لأن في ذلك تقوّلاً على الله، كما في قوله تعالى (يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) فإن تفسيرها وفق ظواهر اللغة ينسب التجسيم لله تعالى ويعد من ألوان التفسير بالرأي.

تأسيس لمنهج تفسير القرآن بالقرآن عند أهل البيت:
تعد هذه القاعدة منهجا من مناهج التفسير، وهي أحد اقسام المنهج النقلي (تفسير القرآن بالقرآن وتفسير القرآن بالرواية).
وهذا المنهج من اقدم المناهج المتبعة في تفسير القرآن الكريم وقد استحسن جميع المفسرين والمتخصصين هذه الطريقة في التفسير الا بعض الإخباريين على ما يفهم من أدلتهم.
وهذا المنهج صحيح لا غبار عليه وقد نصّت نصوص الأئمة وعلماء السلف على صحته.
فقد روي عن الإمام علي(عليه السلام) في خطبة يصف بها القرآن الكريم: (كتاب الله تبصرون به وتنطقون وتسمعون به ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض).
وقد عد العلماء منذ زمن طويل هذا المنهج من احسن المناهج في التفسير.
وسار على هذا المنهج الكثير من المفسرين المعاصرين ومن أبرزهم عملا بهذا المنهج العلامة الطباطبائي (رحمه الله)، فنرى تفسيره الميزان يتميز بتطبيقات هذه القاعدة.
وإذا رجعنا الى روايات المعصومين(عليهم السلام) نجد تطبيق هذه القاعدة كثيرا في رواياتهم من خلال إرجاع المتشابهات الى المحكمات ومن خلال الجمع بين الآيات المطلقة والمقيّدة وبين العام والخاص وبين الناسخ والمنسوخ وتوضيح الآيات المجملة بوساطة الآيات المبينة وتعيين مصداق الآية بوساطة الآيات الأخرى.

نماذج هذا التفسير عند المعصومين(ع)
من نماذج قاعدة تفسير القرآن بالقرآن عند المعصومين، ما ورد عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) عندما سئل عن الظلم في الآية الكريمة: (وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) فأجاب ان المقصود بالظلم في الآية هو الشرك بدلالة قوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
وفي حادثة مشهورة انتج لهم الإمام علي(عليه السلام) من خلال الجمع بين آيتين ان أقل مدة للحمل هي ستة أشهر وبرّأ بذلك امرأة قذفت بالزنى، وذلك من خلال قوله تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) وقوله تعالى: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) فعندما نطرح مدة الرضاعة التي هي اربعة وعشرون شهرا يبقى ستة أشهر.
وحادثة الإمام الجواد(عليه السلام) شهيرة في إقامة الحد على السارق عندما حدد مقدار ما يقطع في قوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) فمن خلال قوله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله فَلَا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَدًا) حدد أن ما يقطع هو أطراف الأصابع فقط، لأن اليد من المساجد والمساجد لله، والروايات في ذلك كثيرة.
ومما ورد عن الإمام الحسن(عليه السلام) في التأسيس لقاعدة تفسير القرآن بالقرآن ما رواه علي بن ابراهيم في تفسيره في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عربياً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)قال: أم القرى مكة سميت أم القرى لأنها أول بقعة خلقها الله من الأرض لقوله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا).
فالإمام الحسن(عليه السلام) يؤسس لقاعدة تفسير القرآن بالقرآن عمليا من خلال تفسير اية بأخرى فاستدل على ان المقصود بأم القرى مكة المكرمة من خلال اية أخرى.

 

نشرت في الولاية العدد 80

مقالات ذات صله