التوبة مفتاح الابواب

adfaf

الشيخ فلاح السعدي

التوبة هي ترك الذنب علماً بقبحه، وندماً على فعله وعزماً على ألا يعود إليه إذا قدر، وتداركاً لما يمكن تداركه من الأعمال، وأداءً لما ضيّع من الفرائض؛ إخلاصاً لله ورجاءً لثوابه وخوفاً من عقابه، وأن يكون ذلك قبل الغرغرة، فمتى اجتمعت هذه الشرائط فقد كملت التوبة.

 

وبهذا الاعتبار قيل في حدها: إنها ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ، أو نار في القلب تلتهب، وصدع في الكبد لا ينشعب. والتوبة من الله سبحانه على العباد هي: قبول الاعتذار من الإنسان، ومحو النتائج المترتبة تكوينياً وجزائياً, قال تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) وهذا من لطف الله، ورحمته أن يتفضل على عباده، ويرفع عنهم نتائج أفعالهم، ويحذفها من سجل الوجود، فيخاطبهم بقوله الرؤوف: (قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وإنّ التوبة غير موجبة لإسقاط العقاب، وإنما يسقط الله تعالى العقاب عندها تفضلاً، والذي توجبه التوبة وتؤثره هو استحقاق الثواب، فقبولها على هذا الوجه إنما هو ضمان الثواب عليها.
بيان غرض التوبة:
ان ظاهر البدن والثياب يستقذر بالقذارات الظاهرية ولا بد من تطهيرها، فكذلك الروح تستقذر بالمعاصي والذنوب والأخلاق الرذيلة ولا بد من تطهيرها، والتطهير الثاني لا يحصل إلا بالتوبة والأيمان والاجتناب عما يوجب التباعد والانحراف عن الصراط المستقيم، فيا أيها الانسان فكّر في حالك وعاقبة أمرك، وراجع رسالة السماء المنزلة على خير الأنبياء، وأحاديث المصطفى والأئمة الكرام (سلام الله عليهم أجمعين) وكلمات علماء الأمة وأحكام العقل الوجدانية.
فباب التوبة مفتاح الأبواب التي لا بد للإنسان من فتحه، ومنه منطلق السعي للوصول إلى المرام، وتحصّل الخيرات التي سُئِل عنها أمير المؤمنين(عليه السلام) إذ قيل له: ما هو الخير؟ فقال: (ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك، وأن تباهي الناس بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت الله، وإن أسأت استغفرت الله. ولا خير في الدنيا إلا لرجلين: رجل أذنب ذنوباً فهو يتداركها بالتوبة، ورجل يسارع في الخيرات) إذا فالإسراع بالتوبة هو إسراع في الخيرات.

ما منشأ الذنوب:
منشأ تولد كثير من الذنوب هو الجهالة وهو مضمون قوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) والجهالة لها معنيان، الأول: الجهالة بمعنى (الجهل)، وهو ما يقابل العلم فكثيرا ما يكون هذا النوع من الجهل وراء ارتكاب الذنب؛ لأنه لا يفهم ولا يدرك حقيقته، ولا يعرف العواقب من وراء هذا العمل، فهذا حاله حال من يجهل أن الماء الملوث بالجراثيم مضر وخطر، فيبادر إلى شربه، فكذلك هذا النوع من الإنسان حين يبادر لارتكاب الذنب، ومن هنا كان لا بد لكل ذي لب من المعرفة لدفع الضرر المحتمل؛ لأنّ دفعه واجب عقلاً وهو محتمل، فكيف بالضرر المتيقن؟
والثاني: الجهالة بمعنى السفاهة، وهذا يحصل بالتجرؤ على الاقتحام في العمل لكن هنا مع العلم بكونه ضاراً ومثله مثل الإنسان المريض الذي يعلم أن أكلة معينة تضر بحاله، وتراه مع علمه بهذا يبادر لأكلها، فهو بفعله هذا سفيه لأنه لا يضع الأشياء في مواضعها، ومثله من يضيع آخرته والذي يشتري عذاب الله ويفعل ما يغضبه، فيكون ذنبه من أشد الذنوب، كما قال سيد الأوصياء(عليه السلام): (أشد الذنوب ما استهان به صاحبه).

أنواع التوبة:
والتوبة على نوعين، الأولى: توبة مقبولة يرضاها الله سبحانه، فَرَض قبولها على نفسه, قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) وقوله: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه)ِ وقوله: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ) فإن فُهِم معنى القبول زال الشك في أن كل توبة صحيحة فهي مقبولة، وهذا إنما يكون في القلب السليم النادم كما في قول سيد الأنام: (والندم توبة) وقوله:(التائب حبيب الله، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له) وفي الحديث القدسي: (طوبى للمنكسرة قلوبهم من أجل الله) لأن قلب التائب النادم مكسور، والله جلّ وعلا عند المنكسرة قلوبهم، إذ يذنب فيندم ندما حقيقيا فيذهب إلى الله بذلةٍ وقلب مكسور.
الثانية: توبة غير مقبولة، وذلك إذا عاين الإنسان ملك الموت فليس هناك توبة، فالله سبحانه يريد ان تكون التوبة توبة اختيار، أما الذي انكشف له العالم الآخر فلا فائدة من توبته لأنها توبة إكراه واضطرار، وهذا حاله حال مجرم كانت له فرصة التوبة فلم يرض بها، حتى إذا وضعوا حبل المشنقة على رقبته قال: إني نادم، ولكن قضي الأمر فلا فائدة من قوله.
إن الله جلّ وعلا يعلم بمن يتوب توبة حقيقية، إذ قال: (وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيما).

وجوب التوبة:
لما كانت التوبة قراراً إنسانياً حاسماً بالرجوع عن المعصية والإعراض عن الشر والرذيلة والعودة إلى حياة الاستقامة والطاعة.. ولما كانت نتائجها العملية خطيرة في سجل الإنسان ومصيره، كانت التوبة واجبة على كل عاص ومجرم ومنحرف، بحكم العقل وإدراكه لخطر المعصية وضرر الانحراف والجريمة.
والتوبة من الذنب واجبة بالأدلة الأربعة:
الأول: الكتاب الكريم: ويدل عليها قوله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وبما أن الشرائع الإلهية جميعاً جاءت لتطهر الإنسان العاصي من الذنوب، وتنقذه من متاهات الضلال والانحراف، وتدعوه إلى حياة الطهر والاستقامة؛ لذا صار واجبا على الإنسان أن يستجيب لهذا النداء ويستفيد من هذه السانحة الفريدة قبل يوم الحسرة والندامة.
الثاني: السنة الشريفة: والأخبار في وجوبها متواترة بين الفريقين بمضامين مختلفة، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (اعترفوا بنعم الله ربكم وتوبوا إلى الله من جميع ذنوبكم فإن الله يحب الشاكرين من عباده) وفيه أيضاً عن أبي بصير: قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً)، قال(عليه السلام): (هو الذنب الذي لا يعود فيه أبداً. قلت: وأينا لم يعد؟ فقال(عليه السلام): يا أبا محمد، إن الله يحب من عباده المفتن التواب). ومن هذا يكون تأكيد القرآن الكريم والسنة النبوية على وجوب التوبة والعودة إلى الله، وإلى فتح صفحة جديدة في سجل الإنسان، لسلوك طريق التوبة والحصول على العفو الإلهي العظيم.
الثالث: الإجماع: إذ أجمع المسلمون كلهم على وجوب التوبة، وهو مما لا ريب فيه.
الرابع: العقل: فإن حدوث المخالفة والبقاء عليها قبيح، والقبيح تركه واجب عقلاً ولا يتحقق إلا بالتوبة، بمعنى آخر: إن المخالفة معصية والمعصية من المهلكات، وإنها تجلب الضرر على العاصي، ودفع الضرر واجب عقلاً ولا يكون ذلك إلا بالتوبة. وباب الله مفتوح برحمته (جلّ جلاله) وإن الفقيه كل الفقيه من لا يقنّط الناس من رحمة الله (جل وعلا).

 

نشرت في الولاية العدد 80

مقالات ذات صله