العبادة والحرية توأمان متوافقان

العبادة

أحمد عبد الرسول

 

قد يتصوّر الإنسان أنّ هناك تفاوتاً بين العبادة والحرية، وذلك عندما يفهم من العبادة قيوداً وانقياداً وحاكماً في الحياة..
وعندما يفهم من الحرية تحرراً من هذه القيود وانطلاقاً في مسار التعبير عن الإرادة كما هي فلا يمكن الجمع بينهما كما لا يمكن اجتماع الضدّين.

والحقيقة ليست كذلك اذا ما تأملنا كلا من العبادة والحرية بعين العقل والفهم الصحيح بعيدا عن المصطلحات وما راج منها، فليست العبادة كما يتصور انها سلوك ترافقه قيود وتقاليد على سبيل التلقين والمحاكاة، ولا الحرية كما يراها الآخرون تعبيرا لما تشاؤه الأهواء من دون حساب.

أخلاق حضارية
وانما العبادة اتجاه اخلاقي وحضاري على نحو الاختيار تقدمت به النبوة والأنبياء، والله وحده يعرفنا كيف نحيا وكيف علينا ان نفهم الحياة في ظل سنة كونية محكمة تعنى بشؤون الإنسانية كشريعة من شرائع الكون، فكما استنت شرائع الكون بفيزيائها ونظمها ونظامها الدقيق، كذلك كان على الإنسان ان يأخذ هو أيضا في ركاب الوجود الكوني الحثيث، وانخراطه الراشد هذا يغنيه عن الحاجة الى ابتداع فلسفة وضعية متخبطة تراوده ثم تهوي به في مكان سحيق.
ويتم الانخراط بهذا الاتجاه الرائد باشراف الأنبياء لتتولى مهمة قيادة الإنسان في كل ميادين الحياة ليحيا حرا كريما في مراقي الكمال المنشود.
وعبادة كهذه ليست مجرد حكم الهي يعقبه طاعة وامتثال، وإنما هي في اساسها ضرورة انسانية لازمة ترافق وجود الإنسان وتتفق مع متطلبات البناء التكويني له ولتطلعاته، ولا يحيط بمعالم هذا البناء وأسراره الا الخالق العليم الحكيم.

أمرٌ مخير ونهيٌ محذر
ومما يلحظ في هذه العبادة انه لا ينبغي لهذا الإنسان أن يساق في ركاب التقاليد والعادات اداة في سوائها ولحاظها، وانما الحري به أن يكون في منظور الاعتبار والتخيير كأن يتاح له حق الاختيار والإرادة دون اكراه في مجال الطاعة والامتثال كما دلّ على ذلك قوله سبحانه (لا اكراه في الدين) وكما ورد على لسان أمير المؤمنين(عليه السلام) لجنده ورعيته بعد مسألة التحكيم وفتنة الخوارج: (ليس لي ان أحملكم على ما تكرهون)، وفيما ورد عنه أيضا مع الشامي وهو في مسيره الى الشام في حديث القضاء والقدر جاء فيه: (إن الله امر عباده تخييرا ونهاهم تحذيرا..).
ومما نهت الشريعة عنه ان يعيش الإنسان اذنا سماعة يقول ما يسمع أو يرى ما يراه الآخرون محاكاة في ركاب التقاليد والعشوائية المقيتة وقد اشار الى هذا قوله سبحانه: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ)( الزخرف/32).

العبادة شكر وثناء
والجدير بالإنسان ان يفهم سلفا ان الله تعالى عندما قضى ان يعبد كان غنيا عن عباده، فلا الطاعة تزيده شأنا ولا المعصية تنال من قدره: (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)( الزمر/7)، وكما دلّ على هذا ما ورد في (الدعاء الخمسين) من الصحيفة السجادية: (.. ولكن سلطانك اللهم أعظم وملكك أدوم من أن تزيد فيه طاعة المطيعين او تنقص منه معصية المذنبين).
وإذا تأملنا في العبادة وتفسيرها كان مؤداها وأساسها تعبيرا عن الشكر والثناء لله وحده، وحقيقة الشكر اساسا تتنافى مع الإكراه والمحاباة والرياء، وإن الإرادة شرط في تحققه ووجوده، ومن دون هذه الحقيقة وهذا الشرط تتنافى مصداقية الشكر، فلا شكر ولا عبادة مع الإكراه، وعلى ضوء هذه الحقيقة يثبت بالضرورة ارتباط العبادة بالحرية وأنهما حقيقتان متلازمتان لا يمكن الفصل بينهما.
الحرية انعتاق وملكة
وأما الحرية فليست كما يراها المتشدقون في مصطلحاتهم الرائجة، من انها سلوك بين الهوى والتنفيذ، وانما هي اقتدار وملكة تتحلى به النفس بعد انعتاقها من الشهوات والأهواء وسائر الضغوط، حتى تأخذ بزمام الأمور وامتلاك القرار.
أما النفس فوسط تتمثل فيه الغرائز والقوى كحقيقة ذاتية لا ينكرها او يتجاهلها إلا الجهلاء الذين يفترون على انفسهم الكذب، ولو أنهم عرفوا انفسهم على حقيقتها لأدركوا حقيقة الحرية كيف ومتى تنالها النفس، وقد كان عليهم ان يحيطوا بمعالم النفس قبل ان يتكلموا في مسألة الحرية.
وإذا كانت النفس تكوينا يجمع بين الغرائز والقوى وهي: الغضبية والحيوانية والوهمية والعقلية فكيف يتم لها ان تنال الحرية مع هذا التكوين المتفاوت؟ نعم انه لمن الحكمة والعدالة ان يكون هناك تفاوت واختلاف بين القوى لأن الإنسان وجود مركب يحتاج الى ان يمارس كلا من هذه القوى في حينها، كأن يغضب اذا دعته الضرورة الى الغضب، في ما تقف غريزة العقل كقوة مستقلة وحاكمة لها من الاقتدار ما يرعى القوى في حدود التوازن والتوافق.

الحرية تحرر النفس من الهوى
وحقيقة الحرية وسط هذا الوجود التكويني المركب انما تعني تحرر النفس من عبودية الهوى والشهوات ومن كل ما يراودها من اطماع وميول وضغوط تسارع في انقيادها واذلالها، وماذا بعد التحرر لو استوفته النفس وحازت عليه، يدلك على ذلك قول رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأحد أصحابه لما شكا نفسه قائلا: عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها وحجرها فأجابه(صلى الله عليه وآله): (صرت حرا).
وكما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام )قوله: (من ترك الشهوات كان حرا) وهكذا ترد الحرية على حقيقتها.
لذا فحري بانساننا اليوم أن يأخذ بهذا الفهم الانساني للحرية حتى يتسامى بها في معالي العز والكمال جبلا من الشموخ في مواقف الشرف والفداء فلا نفائس المال ترضيه ولا المغريات وزخارف الحياة تثنيه عن لحاق العزم والاقدام نهوضا بأعباء الأمانة والرسالة واستدراكا فاعلا وعاجلا لإنقاذ الإنسانية من حبائل الهوى ونزغات الضلال.. رافدا فذا صلبا مثلما وقف الحسين العظيم(سلام الله عليه) بالأمس المجيد طودا من الإباء تتقفى على أنواره الحرية والأحرار منارا متعاليا على شواطئ السلام.

 

نشرت في الولاية العدد 81

مقالات ذات صله