مفاهيم قرآنية (مفهوم الاقتصاد)

635710860795575146

الشيخ كاظم الصالحي

في هذا المقال نتعرف بنحو إجمالي على الرؤية القرآنية للاقتصاد العادل والمتوازن من خلال بيان مجموعة حقائق ثم الإشارة إلى الأسس والقواعد التي يبتني عليها.
إن تعريف الاقتصاد اللغوي من الفعل (قَصَدَ) ومصدره (القصْد) ويعني العزم على أداء فعل ما، ويعني أيضا العدل والتوازن والحد الذي يتوسط الإسراف والتبذير.

 

للمعرفة الإجمالية بالرؤية والنظرية القرآنية لمفهوم الاقتصاد وأسسه وقواعده ومنهجيته نلاحظ الآيات التي تتحدث بنحو مباشر وغير مباشر عن الشؤون الاقتصادية و يمكن تصنيف هذه الآيات الى اربعة أصناف:
الصنف الأول: الآيات التي تتحدث عن الأرض وثرواتها الطبيعية وتسخيرها للمجتمع الإنساني وقابليتها على توفير حاجته ومتطلباته الضرورية.
الصنف الثاني: الآيات التي تتحدث عن توزيع الثروات الطبيعية بنحو عادل كآيات الخمس والأنفال والفيء والزكاة والميراث والانفاق والصدقة.
الصنف الثالث: الآيات التي تدعو الى التعامل الإنساني والتعاون والتكامل الاجتماعي والإحسان والايثار وترجيح الأجر الأخروي على المصلحة المادية.
الصنف الرابع: الآيات التي تبين الحدود والقيود للنشاطات الاقتصادية بهدف كسب الحلال وأكل الطيب واجتناب الحرام والباطل من قبيل الربا والارتشاء وكنز الأموال والإسراف والتبذير.

روح الاقتصاد في الرؤية القرآنية
وبصورة عامة فإن الاقتصاد في الرؤية القرآنية يستمد روحه وفاعليته من مجموعة حقائق وقضايا اساسية.
أولها: ان الله سبحانه وتعالى هو المالك الحقيقي للسموات والأرض وما فيها، والحاكم على الكون لأنه الخالق له قال تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ)(البقرة/107)، وقال تعالى: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)(النور/33).
وثانيها: الإنسان هو المحور الذي خلقت السموات والأرض وما فيها من أجله، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)(البقرة/29) وجعلها المصدر الأساس لتوفير ما يحتاجه من غذاء وملبس ومسكن ووسائل النقل لكي يواصل حياته الكريمة وينال كماله وسعادته المنشودة.
وعلى الرغم من توفر كل هذه النعم الإلهية التي لا تعد ولا تحصى نجد أن الملايين من البشر يعانون من الفقر والحرمان والتخلف والفساد في كثير من بقاع العالم، ولعل الآية تشير الى سبب ذلك هو ظلم الإنسان وكفرانه للنعمة، وقد قال بعض المفسرين ان الظلم هنا هو التوزيع غير العادل للنعم الإلهية ويعني ذلك عدم انتفاع كل البشرية منها والكفر هو كفران النعمة اي التقصير في الانتفاع من هذه النعم.
وثالثها: ان الله تعالى تكفل رزق كل موجود حي، حيث قال: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا) فلا داعي لقتل الأولاد خوفا من الفقر، قال سبحانه و تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا)(الإسراء/31) ومن جهة أخرى جعل الله عز وجل الإنسان خليفته في الأرض وأوكل اليه مهمة اعمار الأرض وتأمين متطلبات الحياة والمعيشة الإنسانية الكريمة قال تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) وجعل الله المصدر الذي لا ينضب لكل ما يحتاجه الإنسان وسهل الوصول الى ذلك إذ قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)(الملك/15) وجعل اسباب الرزق والمعيشة في الأرض بقوله سبحانه (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ)(الأعراف/10) ودعا الناس الى طلب وابتغاء فضل الله في ايات عديدة ولا يقتصر ذلك على التجارة والعناصر والمعاملات الاقتصادية الأخرى بل يشكل كل سعي في الأرض وبحث وتنقيب عن مصادر المواد والعناصر التي توفر متطلبات الحياة والانتفاع منها بنحو جيد كقوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(الروم/46) وجدير ذكره ان من دواعي النشاط الاقتصادي هو الانفاق في سبيل الله وهكذا النهي عن كنز الأموال وتجميدها دون تشغيلها في الزراعة والصناعة وغيرهما من المجالات الاقتصادية التي تشكل عصب الحياة الإنسانية.
ورابعها: ان الانتفاع بالثروات الطبيعية ينبغي ان يكون باتجاه تكامل الإنسان قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ الله الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)(القصص/77) وليس العكس فإن الأموال والقدرات المادية تنسي الإنسان الهدف من وجوده وتشغله عن الآخرة وتشده الى الدنيا وملذاتها فيسعى لجمع أكبر ما يمكن من الأموال وزخارف الدنيا.
لذا يحذر القرآن من الاغترار بالدنيا وثرواتها الفانية، ويحكي عن الإنسان الخاسر يوم القيامة بقوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ (الحاقة/28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ)(الحاقة/25 ـ29).

أسس الاقتصاد الإسلامي:
يبين القرآن الكريم ان النظام الاقتصادي الصحيح هو الذي يتولى التوزيع العادل للثروات ويسعى لتقريب الفواصل بين الأغنياء والفقراء، ويحكم اواصر التعارف والتكافل الاجتماعي ويضمن لكل إنسان الحياة الكريمة ويضع اسسا وقواعدا لذلك منها:
الملكية المختلطة: اي ان القرآن يضفي الشرعية للملكية العامة والملكية الخاصة، اي أن هنالك أموالا عامة تعود ملكيتها الى الله ورسوله ومنها الأنفال قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لله وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(الأنفال/1)، إذ نزلت في بيان حكم الغنائم في معركة بدر والأنفال جمع نفل وهو الغنيمة التي يغنمها الإنسان قبل قيمتها والأصل اللغوي فيه هو ما زاد على الواجب كالصلاة المستحبة وتسمى (نافلة) ومن جملة الأنفال ايضا: الفيء، وهي الأرض التي استولى عليها المسلمون من دون قتال، والأرض التي لا مالك لها كالجبال والغابات والبحار وهكذا الميراث الذي لا وارث له والغنائم التي تؤخذ من دون إذن الإمام.
أما الملكية الخاصة فهناك آيات عديدة تؤيد شرعيتها وعدم جواز التصرف بها من دون اذن مالكها، ومنها آيات الميراث وهكذا الآيات التي تنهى عن المعاملات الباطلة كالبيع الربوي قال تعالى: (وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)(البقرة/275) واعتبر أخذ الربا حربا من الله ورسوله، واقرارا للأموال الخاصة.
ونهى القرآن عن أكل المال بالباطل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ)(النساء/29).

العدالة الاقتصادية والتعاون والاحسان:
أما الأساس الثاني فهو العدالة الاقتصادية، وبصورة عامة يدعو القرآن إلى تطبيق العدالة في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بل الإحسان في ذلك وهو ما يفوق العدل قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(النحل/90) وعدّ تطبيق العدالة هدفا اساسيا لبعثة الأنبياء(عليهم السلام)، قال تعالى: (وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)(الشورى/15) وبهدف تحقيق هذا الهدف السامي ينهى القرآن عن كسب الحرام وكنز الأموال والتقليل من قيمة اموال الناس (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ) وعن الإسراف والتبذير، ومن جهة أخرى يأمر برفع الخمس والزكاة والايثار والانفاق في سبيل الله ويبين اجره العظيم وهكذا يسعى للتوازن الاقتصادي من خلال تشريع منسك الهدي في الحج والكفارات لعدد من المخالفات والتشجيع على القرض الحسن والوصية في ثلث التركة.
وأما الاساس الثالث فهو: التعاون والإحسان، فالغني المؤمن يفكر ويهتم بالمؤمن الفقير ويساعده قدر امكانه قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(المائدة/2).
وعد القرآن المؤمنين بعضهم أولياء بعض في جميع شؤون الحياة واعتبر الانفاق جزءً من مفهوم البر واثنى على الأنصار الذين استقبلوا المهاجرين وآثروهم على انفسهم في متطلبات الحياة.
ورابعا الضوابط الأخلاقية والشرعية: فالقرآن وضع حدودا وقيودا للتصرف في الأموال فلا حرية مطلقة في ذلك حفظا للأموال العامة ومنعا من ضياع وهدر للأموال الخاصة بدون فائدة وفي ذلك حرمان الطبقة الفقيرة والمنع من الكسب الحرام كالربا والسرقة وأخذ الرشوة والغش والغصب والاحتكار وغيرها.

 

نشرت في الولاية العدد 81

مقالات ذات صله