من تاريخ المرقد العلوي عمارة محمد بن زيد الداعي

111

د. صلاح الفرطوسي

قد يكون اول ذكر وصل الينا حول عمارة محمد بن زيد الداعي هو ما ذكره ابو اسحاق الصابي في كتابه المنتزع من كتاب التاجي، فقد نقل عنه الدكتور حسن الحكيم في 2/38 من كتابه (المفصل) قوله: (ان محمد بن زيد الداعي اول من بنى على قبر امير المؤمنين علي بن ابي طالب وابي عبد الله الحسين بن علي صلوات الله عليهما بالغري والحائر، وأنفق عشرين الف دينار حتى تم المشهدان)، وأزعم ان الصابي كان دقيقا في عبارته (على القبر)، فالقبر أُعيد بناؤه غير مرة، ولكن الغالب على الظن ان الداعي اول من بنى مشهدا عليه.

ولعل من الاشارات القديمة إلى عمارة المرقد في مؤلفات اصحاب الحديث ايضا ما ذكره ابن الجوزي في منتظمه 10/136 عن شيخه ابي بكر عبد الباقي الذي سمع ابا الغنائم بن النرسي المولود في شوال سنة اربع وعشرين وأربعمائة (يقول: ما بالكوفة احد من اهل السنة والحديث الا ابيّاً، وكان يقول: توفي بالكوفة ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من الصحابة لا يتبين قبر احد منهم الا قبر علي(عليه السلام) وقال: جاء جعفر بن محمد، ومحمد بن علي بن الحسين فزارا الموضع من قبر امير المؤمنين، ولم يكن اذ ذاك القبر، وما كان الا الأرض حتى جاء محمد بن زيد الداعي واظهر القبر)، ولا اشك في انه جانب الصواب بقوله: (ولم يكن اذ ذاك قبر، وما كان الا الأرض) فقد جرى على القبر الشريف اصلاحات قبل عمارة محمد المذكور.
وذكر عمارته ايضا ابن طاووس في فرحته 2/128-129 ولكنها وردت في حكاية رواها منسوبة الى اخيه الحسن بن زيد في 2/137، وهو وهم المح اليه ابن طاووس سببه سهو في الرواية التي نقلها عن محمد بن حمزة الجعفري صهر الشيخ المفيد كما قال، ورواها المجلسي في بحاره 42/311-314 ايضا.
عمارة فيها سبعون طاقا
ونقل الشيخ محمد حسين حرز الدين في كتابه تاريخ النجف الاشرف 2/77 عن تاريخ طبرستان 1/95 لمحمد بن حسن اسفنديار (ت630هـ /1233م) انه في حدود سنة ثلاث وثمانين ومائتين (جاء محمد بن زيد المعروف بالداعي الصغير ملك طبرستان فبنى على مشهد أمير المؤمنين عمارة تتكون من قبة وحائط وحصن فيه سبعون طاقا) والمراد بالطاق هنا -كما قيل- عدد الغرف التي بنيت على جدار السور من الداخل لإيواء الزوار والمجاورين، ولا شك ان محمدا لم يحضر من طبرستان، ولكنه افاد من موقف المعتضد الذي اوعز الى محمد بن الورد بإعلام محمد بن زيد بعدم الممانعة من ارسال ما يرغب من أموال لتفريقها كيف ما يشاء ولكن بصورة علنية، فأفاد من هذه الفرصة فبعث اموالنا لبناء ضريح الامام(عليه السلام) بالصورة التي وصف بها، وما يؤيد ما ذهبت اليه ان الدكتور حسن الحكيم الذي راجع كتاب محمد بن حسن اسنفديار المذكور في كتابه (المفصل في تاريخ النجف الاشرف: 2/37) ذكر عنه: (قد امر السيد الداعي العلوي بارسال الأموال من طبرستان لتعمير العتبات المقدسة في النجف الاشرف وكربلاء والمدينة المنورة).
وأشار في الحاشية الى الصفحة نفسها الذي ذكرها حرز الدين، وارسال الأموال لا يعني مرافقتها.
ورجَّح محمد جواد فخر الدين في كتابه (تاريخ النجف حتى نهاية العصر العباسي 239) امرين، الأول: زيارة محمد بن زيد القبر المقدّس واطلاعه على احواله وأمره بعمارته، والثاني: قيام ابن زيد ببناء سور يحيط بالقبر الشريف، (ثم بناه اخوه محمد فجعل له حصنا سبعين طاقا) وكلا الترجيحين مرجوح كما سبق بيان ذلك.
قبة عمارة الداعي
ونقل الشيخ محمد عبود الكوفي الغروي في كتابه نزهة الغري 2/168 المنشور في الموسوعة عن كتاب مجالس المؤمنين للسيد نور الدين التستري ان محمد بن زيد بنى قبة أمير المؤمنين(عليه السلام) سنة ثمانين ومائتين، وقاربه مانسنيون في كتابه (خطط الكوفة 133) فقال -كما ذكر الدكتور حسن الحكيم في كتابه السابق الذكر- انه بناه في حوالي سنة 280هـ/893م، ولكن مانسنيون اخطأ في نسبة العمارة الى اخيه زيد بن محمد.
واستبعد اقامة هذه العمارة في التاريخ الذي ذكره كل من الكوفي والغروي ومانسنيون، لأن المعتضد لم يكن على بينة بالأموال التي تأتي من محمد ابن زيد الا في سنة اثنتين وثمانين ومائتين، فكيف استطاع بناء الضريح او المرور به قبل هذا التاريخ في وقت كانت امواله تصل مكن طبرستان بصورة سرية؟!
والراجح عندي ان الأمر بالبناء كان بعد سنة 282هـ/895م ويغلب على الظن انه كان في سنة 283هـ/896م بحسب ما يستفاد من خبر محمد بن اسنفديار السابق الذكر الذي ذكر ان محمد بن زيد جاء في تلك السنة وبنى المشهد، وقد رجحنا عدم حضوره ولكنه ارسل الاموال لعمارته في تلك السنة.
ولابد ان محمد اجرى جرايات خاصة ايضا للخدمات التي تساعد على الاقامة والادامة، ولكن جراياته لم تدم طويلا فقد استشهد سنة 287هـ/900م أو سنة 289هـ/902م، ولا يستبعد ان تصاب عمارته بأضرار في تلك البيئة الصحراوية الصعبة المناخ بعد ان طالتها يد الاهمال بسبب انقطاع الموارد.
وتاريخ هذه العمارة ينسجم مع رواية علي بن الحسن ابن الحجاج الذي كان حيا سنة 333هـ/954م راوي حكاية صندوق داود ويستأنس بها لتوثيقها، فقد رأى الصندوق، ورأى ايضا عمارة الداعي، بل يبدو من الرواية ان القائمين على عمارة الداعي ابقوا الصندوق في مكانه، لأن الراوية علي بن الحسين الحجاج -وان اخطأ في نسبة العمارة الى الحسن ابن زيد- قال: (رأينا هذا الصندوق -الذي هذا حديثه- لطيفا وذلك قبل ان يبنى عليه الحائط الذي بناه الحسن بن زيد) كما ورد في (الفرحة 2/137).
في جوار عمارة المرقد
وارجح انه قبل عمارة الداعي بدأ الضريح المقدس يشهد جوارا، والراجح ان محمدا بن زيد بعد ان فتح المعتضد الطريق له في توجيه الأموال بصورة علنية خص المجاورين للضريح المقدس من العلويين بجرايات أسوة بغيرهم من العلويين، ولعله فضلهم على غيرهم بسبب تحملهم مشاق المجاورة في ظروف بيئية غاية في الصعوبة، واظن ان البدايات الحقيقية في نشأة المدينة تعود الى تلك الفترة، ولا اشك في ان ما سارع في تكونها الظروف التي احاطت بالخلافة العباسية كثورتي الزنج والقرامطة وما رافقتها من استيلاء الاتراك على الخلافة ثم موقف القرامطة من المرقد المقدس بعد تمركزهم بالكوفة أو بجوارها، وحروبهم التي دارات ايام الخليفة المقتدر، ولم يسجل على القرامطة أي اعتداء على حرم المرتضى او على مجاوريه، وقد اسهب في الحديث عن هذه الحروب ابن الجوزي في منتظمه وابن الاثير في كامله والمح لها المسعودي في غير موضع من كتابه تاريخ الرسل والملوك، ولك ان تنظر بعض تفصيلاتها ايضا في تاريخ النجف الاشرف 2/79-86.
وفي خلال تلك الفترة بدأت شخصيات علمية دينية تطرق ابواب المدينة مثل المحدث محمد بن يحيى الشيباني، والحسين بن احمد المعروف بالمستور عند الاسماعيلية اما تاريخ تلك الزيارات فيعود الى العقد الاخير من القرن الثالث كما ذكر محمد حسين حرز الدين في كتابه السابق الذكر.

نشرت في الولاية العدد 84

مقالات ذات صله