أطباء عرب.. موفق الدين عبد اللطيف البغدادي

The-Scholars

حمود حسين

عالِم ندر أن يتَّسع صدر رجل ما اتَّسع له صدره مِن ضروب العِلم والأدب؛ فهو طبيب، رياضيٌّ، نحْوي، لُغوي، متكلِّم، محدِّث، مؤرِّخ، حكيم مِن فلاسفة الإسلام، وأحد العلماء المُكثِرين مِن التصنيف في الحِكمة وعِلم النفس والطبِّ والتاريخ والبلدان والأدب.

اسمه وولادته ونشاته:
‏عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي البغدادي، موفَّق الدِّين، ويُعرَف بابن اللباد، وبابن نقطة، وُلد ونشأ وترعرَع في بيت عِلم في بغداد، فقد كان والده يَشتغِل بعِلم الحديث، بارعًا في علوم القرآن والقراءات، وكان عمُّه فقيهًا مجيدًا، أما هو نفسه فكان كثير الاشتِغال بالعِلم، لا يُخلي وقتًا مِن أوقاته مِن النظر في الكتُب والتصنيف والكتابة، تتلمَذ على أهمِّ علماء بغداد آنذاك.
كان قويَّ الذاكرة شديد الذكاء سريع الحِفظ جادّاً في حياته، لا يُفوِّت فرصةً إلا في ما يَزيد فى عِلمه أو يقرِّبه من ربه، ‏وكان حريصًا على حفظ الكتاب الذي يَقرؤه، حتى إذا فقَده لم يَندم، وقد أشار إلى ذلك في قوله: «وإذا قرأتَ كتابًا فاحرص كل الحِرص على أن تَستظهِره وتملك معناه، وتوهَّم أن الكتاب قد عُدم، وأنك مُستغنٍ عنه، لا تحزن لفقده».

رحلاته العلمية والعملية
‏ أمضى موفق الدين البغداديُّ جُلَّ حياته مُرتحِلاً في بلاد المسلمين، فلما اشتدَّ عوده وبلَغ الثامنة والعِشرين مِن عمره، ولم يبقَ في بغداد مَن يأخذ بقلبه ويملأ عينه ويحلُّ ما يشكل عليه رحل إلى الموصِل، وكان فيها كمال بن يونس، واجتمع إلى البغدادي – في الموصل – جماعة كثيرة، وعُرضت عليه مناصِب، فاختار منها مدرسة ابن مُهاجر المعلَّقة ودار الحديث التي تحتها، وأقام بالموصِل في اشتِغال دائم ليلاً ونهارًا، ‏وقد تيسَّر للبغدادي ما أراده في دمشق والقاهرة، فكان في دمشق أئمة الطبِّ من أمثال ابن النقاش وابن المطران ‏ورضيِّ الدِّين الرحبي وشيخهم مهذَّب الدِّين الدخوار، ‏وفي القاهرة وجد مِن أمثال القاضي أبي المنصور عبد الله الشيخ السديد، العالِم بصناعة الطبِّ الخبير بأصولها وفروعها، الجيد المعالجة، الكثير الدُّربة، وأبي البيان بن المدوَّر، وأبي البركات بن القُضاعي، وجمال الدِّين بن أبي الحوافِر، وموسى بن ميمون القُرطبي.
‏وقد تميَّز البغدادي في صناعة الطب بدمشق، ‏وعُرف بها، أقام بدمشق مدة ‏وانتفع الناس به، وقد تتلمذ عليه في دمشق الطبيب رشيد الدِّين علي بن خليفة عمُّ ابن أبي أصيبعة، كما تتلمذ عليه الطبيب الصيدلي المشهور رشيد الدِّين الصوري طبيب المَلِك العادل وآبائه، ‏وتتلمَذ عليه أطباء آخَرون مَشهورون، هذا وقد صنَّف خلال إقامته هذه ‏بدمشق كتبًا كثيرة في فنِّ الطب.. وفي القاهرة أقام بمسجد الحاجب لؤلؤ يُقرئ الناس، اجتمع خلال ذلك بـياسين السيميائي وبموسى بن ميمون اليهودي وبأبي القاسم السارعي.

اشتغاله بالعلم
‏رجَع البغدادي إلى دمشق، واشتغل بالعِلم وإقراء الناس بالجامِع والتأليف، و‏ما لبثَ أن رجع – بعد وفاة صلاح الدين بمدة – إلى القاهرة، وأخذ يُقرئ الناس الطبَّ بالجامع الأزهر، وبقي في مصر مدة ألَّف خلالها كتابه: «كتاب الإفادة والاعتِبار في الأمور المشاهَدة والحوادث المعايَنة بمصر» ذكر فيه أشياء شاهَدها أو سمعها أو عايَنها.
‏ثم رحَل إلى القدس وأقام بها مدة، وكان يتردَّد إلى الجامع الأقصى، ويَشتغِل الناس عليه بكثير من العلوم، وصنَّف هنالك كتبًا كثيرة، ثم إنه توجَّه إلى دمشق ونزل بالمدرسة العزيزية بها في العام 1207م، وشرع في التدريس، وكان يأتيه خَلق كثيرون يَشتغِلون عليه بأصناف العلوم، ثم إنه سافر إلى حلب، وقصد بلاد الروم، وأقام بها سنين كثيرة، صنَّف هناك عدة كتُب باسم الملك علاء الدِّين داود بن بهرام صاحب أرزنجان (وهي مِن بلاد أرمينيَّة).
‏ولقد تنقَّل في أثناء إقامته في بلاد أرمينيَّة وبلاد الروم بين أرزنجان وأرزن الروم (مدينة أرمينية المشهورة)، وكماخ ويركي وملطية (من مدن الأناضول على الفرات)، ثم عاد عام 626 ‏هـ / 1229م إلى حلب، وأقام فيها ثلاث سنوات يؤلِّف ويدرس ويَتعاطى مهنة الطبِّ، وقد عزم أن يأتي إلى دمشق ويُقيم بها، ثم خطَر له قبل ذلك أن يحجَّ، وجعل طريقه على بغداد، ولما وصل بغداد مَرِض فيها وتوفِّي سنة 1231م.
اهتمامه بالفن
كان عبد اللطيف البغدادي صاحب حس مرهف، ذواقاً للفنون والآثار، ولقد ظهر اهتمامه بذلك في الأيام التي قضاها في مصر، ورأى ما فيها من الآثار والفن، وصنف في ذلك كتابه المشهور ((الإفادة والاعتبار))، وهذا الكتاب الخاص بالآثار المصرية يكشف عن معارف البغدادي الواسعة وهواياته المتعددة، وأهمها الاهتمام بالآثار وولعه بها وغيرته عليها ومناداته بالحفاظ عليها ورعايتها لأنها خير شاهد على حضارة الأقدمين وعراقتهم في الرقي والتمدن، وتكلم البغدادي في كتابه علي آثار الجيزة وبوصير، وكان يصف الآثار وصفًا متناهيًا في الدقة والأمانة، وكان يسعى لذلك بكل الوسائل، حتى أنه كلف رجلًا لكي يقيس له ارتفاع الهرم، وكان البغدادي يبدي اهتمامه الشديد لمعرفة طريقة نقل حجارة الأهرام وتركيبها، والمواد التي استخدمت في بنائها واللغة المجهولة المكتوبة على الأهرام.
ولقد ثار البغدادي ثورة كبيرة على أسلوب الكتابة في عصره، فقد غلبت في عصره المحسنات البديعية اللفظية كالسجع والإطناب والولع بأسلوب الطباق والمقابلة والتورية، فكتب بأسلوب بسيط موجز بعيد عن إهدار المعاني، ولقد وصف أحد العلماء أسلوبه قائلًا: ((إن أسلوبه من أرق الأساليب، وإن أفكاره عصرية، وكان عنده رغبة في الدقة، وميل إلى التحقيق العلمي)).

نشرت في الولاية العدد 84

مقالات ذات صله