بيعة الغدير والانقلاب الخطير

السنن-الالهية

د. حسين الشريفي

الحمد لله الذي خلق الخلق أطواراً وصرفهم في أطوار التخليف كيف شاء عزةً واقتداراً وأرسل الرسل منه الى المكلفين إعذاراً وإنذاراً فنصب الدليل وأنار السبيل وقطع المعاذير وأقام الحجة وأوضح المحجة فقال هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.

السنة الإلهية
إن السنن الالهية التي أرسلت الى البشر هي قوانين إلهية لا يمكن مخالفتها وزحزحتها من مكانها الذي رتبها الله عز وجل فيه. فإن ذلك ينتج كوارث بتغيير مسارها. وهذا ما حصل بعد وفاة الرسول الاعظم النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وما حصل في بيعة الغدير يوم 18/ ذي الحجة في غدير خم وفيها أمر الله نبيه أن يجعل علياً خليفة من بعده وإماماً للناس. لقد أنزل الله عزوجل رسالته وعقيدته الالهية الى بني الانسان كضرورة من ضرورات بيان وتوضيح هذه العقيدة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم على النبي (صلى الله عليه وآله) ليكون الاقرب والاعلم بالعقيدة والافهم لأحكامها. وهو المرشد الى الدعوة لها وكقائد للدولة ومركز الدائرة ومرجعها في كافة الشؤون الدينية والدنيوية.
وهذا ما حصل في آية التبليغ في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) (المائدة آية 67).
فأراد ربك من خلال هذه الاية أن يعلموا مجتمعين أن الولي والخليفة من بعد النبي (صلى الله عليه وآله) هو علي (عليه السلام) فأمر الله نبيه ان يعلمهم بذلك في حجة الوداع فلا حجة بعدها. حتى لا ننسى وكان اللقاء قرب غدير ماء وملتقى القبائل والحجاج في مكان يقال له (خمّ) فلا يوجد في الجزيرة العربية مكان مميز مثله وهو إعلان لحدث كبير أمام العدد الهائل بالنسبة لسكان الجزيرة آنذاك ويثير آلاف التساؤلات والاحتمالات.

الخطبة وإعلان الولاية
وهذه الامور كانت بذهن النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يتأهب لإبلاغ أمر إلهي وأن يجعل له مبرراً وسلطاناً لتبليغ الامر الإلهي القاضي بتنصيب الخليفة من بعده وأن مستقبل الرسالة الاسلامية يتوقف على هذا التبليغ وهذا ما صرح به النبي (صلى الله عليه وآله) حين قال: ((يا أيها الناس إني قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي الا نصف عمر الذي يليه، وإني لأظن أني يوشك أن أدعى فأجيب, واني مسؤول وإنكم مسؤولون, فماذا أنتم قائلون)) قالوا:((نشهد أنك قد بلغت وجهدت ونصحت فجزاك الله خيراً)), فقال:((أليس تشهدون أن لا إله الا الله , وأن محمداً عبده ورسوله وأن جنته حق وناره حق وأن الموت حق وأن البعث حق بعد الموت وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور)) قالوا: ((بلى نشهد بذلك)), قال النبي: ((اللهم اشهد)) ثم قال: ((يا أيها الناس إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه)). لقد فهم الحاضرون المجتمعون في غدير خم مضمون القرار وأقبلوا على الولي وخليفة النبي يقدمون له التهاني بتلك النعمة الالهية، وكان من أبرز المهنئين عمر بن الخطاب الذي قال لعلي بالحرف ((بخ بخ يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم)) وقال ثانية ((هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة)).

الجهر بالتبليغ والتأكيد بالدواة
لقد أدى رسول الله الامانة وبلغ الرسالة وبيّن كل شيء ونصّب ولي عهده وخليفته من بعده, كما أمره الله, وبلغ أفراد الامة وجماعاتها بذلك أمام مائة ألف مسلم. وهنّأ الجميع علياً بذلك وفيهم عمر وأبو بكر. ومرت الايام حتى جاء النداء ليلتحق خاتم الانبياء بالرفيق الاعلى وهو في داره يجلس على فراش الموت, وجبريل الامين (عيه السلام) لا ينقطع عن زيارته والنبي (صلى الله عليه وآله) على علم بما يجري حوله ومدرك أنه السكون الذي يسبق العاصفة والصمت الذي يسبق الانفجار فإن الخطط التي يتبناها الاخرون لتغيير مسار السنن الالهية دفعه ان يقول امام كل الصحابة الذين حضروا في بيته وأراد ان يلخص الموقف لأمته ويذكر بالخط المستقبلي لمسيرة الاسلام فقال (صلى الله عليه وآله): ((قربوا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً)) ولكن هناك خيوط للمؤامرة تمت حياكتها حين تصدى عمر بن الخطاب له ووجّه كلامه للحضور وقال: (إن النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله) فاختلفوا فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي (صلى الله عليه وآله) قال لهم: ((قوموا عني)). وبقي النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته في لحظات الوداع وغاب القمر واستشهدَ رسول الله الذي أضاء الوجود بنوره وشاع الخبر, وهرع الناس وسكان المدينة وتجمعوا في بيته وأحاطوا به يبكون نبيهم وعلى رأسهم الولي والخليفة علي بن أبي طالب (عيه السلام) وأهل بيته مشغولون بتجهيزه لمواراته في ضريحه المقدس.

سقيفة بدلا عن بيعة إلهية
بدأت خيوط تلك المؤامرة وانعقد الاجتماع في سقيفة بني ساعدة بالسرعة القصوى بحيث يتم البت بموضوع الخلافة خلال فترة انشغال أهل بيته بتجهيزه ودفنه فلا يحضر أحد على الاطلاق ويتم تنصيب الخليفة بغيابهم، فلا يكون لهم بعد ذلك عذر ولا مبرر للاعتراض الا الفتنة ومواجهة الخليفة الجديد ومبايعيه حتى تم تنصيب أبي بكر خليفة من بعد النبي(صلى الله عليه وآله). هذا ما حصل ولكن ما حصل في تغيير تلك السنن الالهية وما نتج عنها هو حروب الردة وقتل صحابة رسول الله ومنهم مالك بن نويرة من قِبَل خالد بن الوليد والزنا بزوجته وانتهاك حرمات البيوت. والعودة الى الجاهلية وتغيير المسار الإسلامي الذي بقي الى يومنا هذا وما أرتكب بحق أهل البيت(عيهم السلام).

تاريخ يعيد نفسه
والتاريخ يعيد نفسه وما يرتكب بحق المسلمين الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) من زمر الارهاب من التكفيريين في هذا الزمان ناتج عن مخالفة تلك السنن الالهية ومخالفة النبي (صلى الله عليه وآله) في بيعة الغدير, فهذه المنظومة الحقوقية الالهية التي جاء بها نبي الاسلام ما هي في مجملها وحقيقتها وبكل جوانبها الا خطة الهية متكاملة أعدّت بإحكام ووضعت خصيصاً لإرشاد الجنس البشري للأقوم والأصلح ولإسعاده في الدارين, وهي بطبيعتها وبحكم تكوينها الالهي قائمة على الجزم واليقين وهذا ما يؤكد الثقة المطلقة التي شقت طريقها الى عالم التطبيق ونقلت من التنظير الى العمل ومن الكلمة الى الحركة عبر دعوة قادها النبي (صلى الله عليه وآله) بنفسه تمخضت عن دولة ترأسها (صلى الله عليه وآله) نفسه فكانت أعظم دولة عرفتها البشرية من خلال السنن الالهية.

نشرت في الولاية العدد 85

مقالات ذات صله