صناعة العقـول

عقول

السيد هاشم الميلاني

قالوا قديما ان الانسان حيوان ناطق، والنطق هو الصفة البارزة لوجود القوة العاقلة، إذ لولا التعقل وربط الجزئي بالكلي ووضع المقدمات.
إذاً القوة المحركة للانسان بصورة عامة نحو الخير أو الشر هي ( القوة العاقلة)، وهي التي تحدد مسير الانسان، لذا كان من أهم أهداف بعثة الانبياء(عليهم السلام) تصحيح مسار هذه القوة إذ بصحة عملها يفوز الانسان، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في ضمن سرد وظائف الانبياء : (ليُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ)

واذا اردنا ان ننظر الى المسالة قرآنيا فقوله تعالى: ( قُلْ كُلّ يَعْمَل عَلَى شَاكِلَته) خير دليل على صحة ما نقول، إذ ان شاكلة الانسان (وهي المنظومة الفكرية التي يعتمد عليها في مجال تحديد مسيره الثقافي، والاجتماعي، والسياسي والاقتصادي وغير ذلك والتي تتكون بدورها من البيئة والاسرة والمجتمع وطريقة التعليم .. الخ) لها الدور البارز الفريد في كيفية أعمال الانسان، فاذا اردنا تقييم الانسان أو معرفة منطلقاته الفكرية، فلابد من الوقوف على شاكلته وكيفية بنائها وتكوينها، ومن خلالها يمكن معرفة طريقة عمله، وحتى امكان تغييره بالتلاعب في الروافد التي رسمت شاكلته.
وهذا ما يعمله الغرب المستعمر تجاهنا، اذ بعد وقوفه على شاكلة الفرد المسلم وبعد اطلاعه على الروافد المعرفية التي ابتنت عليها هذه الشاكلة، اصبح من السهل عليه التلاعب بهذه الشاكلة وتغيير روافدها أو استبدالها بغيرها، ومن ثم تكوين خلية مسلمة كبيرة تفكر كما يفكر الغربي ومن ثم لا يكون خطرا عليها.
أما اذا لم يتمكن من تغيير شاكلته، فيمكنه على الاقل معرفة ردود فعله امام الحوادث الثقافية أو الاقتصادية أو العسكرية أو غيرها.
فإذا علم الغرب المستعمر أن الحدث الفلاني تحدث من جرائه ردود فعل معينة عند طائفة معينة من المسلمين، فيمكنه عندئذ وضع خطط مدروسة لغزوها ثقافيا وفكريا بأقل كلفة. واذا اردنا التمثيل بمثال مادي محسوس فنقول: ان صفة لوحة المفاتيح الخاصة بالكومبيوتر (الكيبورد) تتميز بوجود ازرار، ولكل زر مهمة خاصة، فمثلا زر الـ(ok) يعني فتح الملف وزر (off) يعني اغلاقه، وكذا باقي الازرار إذ ربطها المهندس بمعانيها المخصصة لها وعند الضغط على أي زر يعطينا النتيجة المطلوبة.
فاذا جاء شخص وتلاعب بهذه البرمجة وغير روابطها فربط مثلا زر الـ(ok) بالاغلاق وزر (off) بالفتح فان النتيجة تصبحت النتيجة معكوسة بحيث لا يصل الانسان إلى النتيجة المتوخاة، وهذه العملية نفسها تجري داخل جسم الانسان، إذ ان دماغه له روابط شبكية مع أعضاء الجسم، ويعطي ايعازات عند حالات مختلفة مثل البرد والحر والخوف والالم، ومن خلال الايعازات تاتي ردود فعل اعضاء الجسم، فلو تغيرت هذه الروابط في الدماغ لأصبحت النتيجة معكوسة.
وهذا الحال ينطبق على الشاكلة المعرفية والثقافية لدى الانسان، إذ يمكن مسخ هويته من خلال تغيير الروافد المعرفية والفكرية لتكون النتيجة وتحديد مسيره بيد من تلاعب بهذه الشاكلة ويكون مصداقا لقول المعصوم(عليه السلام): (لبس الاسلام لبس الفرو مقلوباً) وقوله: (فالصورة صورة انسان والقلب قلب حيوان) وهذا ما يصنعه الغرب تجاه عامة المسلمين من خلال وسائل الاعلام والكتب والمجلات ونشرات الاخبار والافلام.
على ان العملية هنا ادق واصعب، لأن مسخ الهوية وتغيير المفاهيم وصناعة العقول لا تحصل فجأة بل لها صلات متعددة مع الخلفيات التي يعتمد عليها كل انسان من بيئة وأسرة ومجتمع وتعليم فاذا اردنا تغيير الشاكلة فلابد من التأثير الهادئ والمستمر على هذه الاسس وحرف مسيرتها شيئا فشيئا نحو ما نريد.
ماذا صنع الغرب المستعمر أو حاول ايجاده لتغيير وانحراف هذه الروافد والخلفيات؟
لو اردنا أن نشير إلى اهم الروافد الفكرية المعرفية والاجتماعية التي تبني شخصية الانسان وهويته وتساهم في صناعة عقله وشاكلته لأمكننا الاشارة إلى: الاسرة والبيئة والتربية والتعليم وسائل الاعلام من فضائيات وصحف ومجلات ومواقع الكترونية) فهذه أهم الامور في صناعة الانسان.
فلننظر ماذا فعل الآخرون للسيطرة عليها ويتبعها التلاعب بكينونة الانسان وهويته علما بأن هناك تأثيرا وتأثراً متقابلا بين هذه الروافد التي ذكرناها، إذ ان بعضها يؤثر في بعضها الآخر سلباً وايجابا.

1- الأسرة: الأسرة المتماسكة التي بنيت على المحبة والاحترام المتقابل تعد المحطة الأولى لصناعة الانسان وتربيته، وقد عمدت الحداثة الغربية وما افرزته من حريات سلبية إلى ضرب هذه المحطة، فنرى أن المرأة لها الحرية الكاملة ولا تخضع لأي رقابة وقيمومة ويتبعها الاولاد ايضاً إذ يمتلكون الحرية كاملة بمعزل عن تدخل الابوين، وستكون النتيجة تفسخ الاسرة وابتعادها عن وظيفتها الرئيسة في بناء الفرد والمجتمع.
2- البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الانسان تؤثر على تكوين شخصيته ايضا، فهذه البيئة لو تكونت من اسرة متفسخة الهوية والثقافة والخلق فسوف لن تكون بيئة اجتماعية سليمة، وسوف لا تنتج انسانا معتدلا حكيما.
3- التربية والتعليم هي المحطة الثالثة والرئيسة في تكوين وحدة الانسان، وبها يزدهر الفرد والمجتمع، فالحداثة على الرغم مما انتجت من تقدم علمي تقني، ولكنها ابتعدت كثيراً في هذا المجال عن الدور الانساني والايماني في حياة الفرد والمجتمع.
4- اما وسائل الاعلام فأمرها اوضح من غيرها لما تمتلك من قدرة على مسخ العقول وتغيير الهوية لا سيما ما تستخدمه من قوى شيطانية (الجنس والعنف) لنيل مآربها.
ان هذه الروافد المعرفية للإنسان، التي لها التأثير البالغ في صناعة شاكلته وهويته، قد لعب الغرب دوراً خبيثاً في الاستحواذ عليها والتحكم بها.
فما نراه اليوم من تخلف وفساد وتقهقر انساني على مستوى الفرد والمجتمع ناتج عن هذا، ومن اراد الاصلاح عليه ان يقوم بإصلاح هذه الروافد وارجاعها إلى نصابها المطلوب ليصلح من خلالها الفرد والمجتمع.

نشرت في الولاية العدد 85

مقالات ذات صله