فارس رزاق علوان الحريزي
عندما يتحدث التاريخ بخير محض لا يشوبه شر ولا نقص عن رجال امتطوا الخطوب وتسلقوا سنام القمة واوج العرفان فهو مما يدعو إلى الترغيب في الكتابة عن المدة التي عاشوا فيها بعد ان ربط الله قلوبهم بالصبر، فأحطنا بأصحاب العقول والبصائر الواضحة والفصاحة والشعر والجزالة واصطفينا منهم الصحابي الوفي الذي ابلى بلاءً عظيما (سعيد بن قيس الهمداني) الذي قال امير المؤمنين (عليه السلام) له: (وأنت يا سعيد بمنزلة عيني التي ابصر بها ويدي التي ابطش بها وفي كل وقت وفي كل عمل اعند على شجاعتك ورجولتك)(مجالس المؤمنين: 1/296)
كان من التابعين الكبار، اذ شبهه بعضهم بمالك الاشتر وقد مدحه الامام علي عليه السلام مدحا منقطع النظير اذ روي انه(عليه السلام) قال فيه:
وَلَمَّا رَأَيْتُ الخَيْلَ تُقْرَعُ بالقَنَا فوارسها حمرُ العيون دوامي
وأقبل رهج في السماء كأنه غَمَامَةُ دَجْنٍ مُلْبَسٍ بِقَتَامِ
وَنَادَى ابْنُ هِنْدٍ ذا الكِلاعِ وَيَحْصُبا وكندة في لخم وحي جذام
تيممت همدان الذين هُم هُم إذا نَابَ أَمْرٌ جُنَّتِي وَحُسَامِي
وناديت فيهم دعوة فأجابني فوارس من همدان غير لئام
فوارسُ من همدان ليسوا بعزّل غَدَاة الوَغَى مِنْ شَاكِرٍ وَشَبَامِ
ومن أرحب الشم المطاعين بالقنا وَرُهْمٍ وَأَحْيَاءِ السَّبِيْعِ وَيَامِ
ومن كل حي قد أتتني فوارس ذَوُو نَجَداتٍ في اللِّقَاءِ كِرَامِ
بكل رديني وعضب تخاله إذا اخْتَلَفَ الأَقْوَامُ شُعْلَ ضِرَامِ
يقودهم حامي الحقيقة منهم سَعيدُ بْنُ قَيْسٍ وَالكَرِيْمُ يُحامِي
ديوان الامام علي: 113 -114.
مما يدل على المنزلة العظيمة لهذا التابعي الجليل من مخلصي امير المؤمنين عليه السلام اذ بارز في حرب صفين بحيث ادخل السرور على قلبه عليه السلام فأثنى على سعيد وقبيلته همدان، فقال: يا آل همدان انتم مجنّي ودرعي، بكم استظهر، فنال هذا المغوار فخرا ومدحاً، ولا غروة اذا ما وصفه الامام عليه السلام بأنه عينه التي يبصر بها ويده التي يبطش بها وكان ردءً وبطلا يعتمد عليه الامام عليه السلام امام الشجعان مما يدل على وثاقته وعدله.
كذلك حصل على المستشار الثاني لعبيد الله بن عباس قائد قوات الحسن عليه السلام مما يبرهن على انه من ثقات امير المؤمنين ورجاله الميامين وعلوّ مرتبته وجلالته، وما روي من انه لما نفر الناس بالإمام الحسن عليه السلام في ساباط المدائن ودعا ربيعة وهدان وفيهم سعيد ابن قيس فأطافوا به يمنعونه ممن اراده، فإنه يدل شدة الاعتماد عليه ومعلومية خلوص ولائه (المامقاني، تنقيع المقال: 2/29) وقد صدق فيه قول الشاعر:
وإن سعيدا اذ برزت لرمحه لفارس همدان الذي يشعب الصدعا
(نصر بن مزاحم، صفين: 43)
وقال عنه السيد الامين: كان من المخلصين في ولاء امير المؤمنين عليه السلام ومن الشجعان المعروفين اذ كان فارسا شجاعا وشاعرا مغوارا شهد معه الجمل وصفين، واخباره دالة على علوّ مقامه وخلوص ولائه(محسن الامين العاملي، اعيان الشيعة: 7/243).
ويكفيه فخرا انه من الذين عقروا الجمل كعمار ابن ياسر وقيس بن سعد بن عبادة والاشتر ومحمد بن ابي بكر واشباههم(الاخبار، الطوال: 151)، ولا يخفى على اللبيب البطولة العالية في ذلك، وكانت شجاعته مقرونة بالخطط الحربية والحنكة العسكرية فضلا عن كون شعره يرفع الهمم، وينقطع غضبا على الاعداء، فقد كان مملوءً بالإرادات ومن ليوث الامة، سالكا الطريق الواضح بعيدا عن التأويل، أجل انه كان من كماة الامة في الفصاحة والبلاغة فقد كتب عمّي القلب شرحبيل الذي استنفر اهل الشام بموافقة امير المؤمنين عليه السلام: فلا تكن رأس الخطيئة ومفتاح البلية، فاني ما زلت لك ناصحا، وعليك مشفقا(الفتوح: 1/538).
وقال في خطبة بلاغية اخرى: ان رئيسنا ابن عمّ نبينا، بدريٌّ صدق وصلى صغيراً، وجاهد مع نبيكم كبيراً، ومعاوية طريق من وثاق الاسار، وابن طليق، الا انه اغوى حفاةً فأوردهم النار، وأورثهم العار، والله محل بهم الذلّ والصغار الا انكم ستلقون عدوكم غداً، فعليكم بتقوى الله والجد والحزم والصدق والصبر فان الله مع الصابرين(قيس العطار، ديوان سعيد بن قيس الهمداني: 58)
نماذج من شعر سعيد بن قيس الهمداني
روي ان سعيداً الهمداني قال شعرا يهدد به معاوية بن ابي سفيان اذ يقول:
ألا أبلغ معاوية ابنَ حربٍ ورجمُ الغيبِ تكشفُهُ الظُّنونُ
بانا لا نزالُ لكم عدوّاً طَوالَ الدَّهْرِ ما سُمِعَ الحَنينُ
ألمَ ترَ أنَ والدنا عليٌّ أبو حَسَنٍ ونحنُ لهُ بَنونُ
وأنَّا لا نُريدُ سِواهُ مولىً وذَاكَ الرُّشْدُ والحَظُّ السَّمِينُ
وقال في مدح امير المؤمنين:
هذا عليٌّ وابن عمِّ المصطفى اول من اجابه فيما روى
هو الإمامُ لا يبالي من غوى
وقال في مدح قومه وتضحيتهم في سبيل المبدأ:
أيّةُ حَرْبٍ أضرمتْ نيرانُها وكُسِرتْ يوم الوَغى مُرَّانـُها
قل للوصيِّ أقبَلَتْ قحْطانُهــا فادعُ بها تكفيكَها همْدانُهــا
همُ بنُوها وهُمُ إخوانُها
نشرت في الولاية العدد 85