الإمام علي عليه السلام وإنصاف الناس من نفسه

_M4G3255

الشيخ نادر كمون

ان مما فطر عليه الانسان محبة نفسه وذاته فيسعى حثيثا في جلب المنافع لها ودفع المضارّ عنها، وقد أكّد الله سبحانه وتعالى هذه الحقيقة في سورة العاديات حيث قال عز وجل: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)(العاديات/8)، ولأجل محبة الإنسان لنفسه وسعيه لإبرازها بأنصع صورة تراه لا ينصاع للحق ولا ينصف الناس وان كانوا على حق وهو على باطل.

رضا الله غاية المؤمن
من كانت غايته رضا الله واتباع الحق ينصف الناس من نفسه وان كان الناس على باطل وعلى غير نهج الحق، فهذا رسول الله(صلى الله عليه وآله) عندما كان يتكلم مع خصومه من المشركين ويدعوهم الى المحاججة كان يقول لهم ما حكى القرآن على لسانه: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)-سبأ/24-.
فمع ان رسول الله(صلى الله عليه واله) على المحجة البيضاء، انصف المشركين وساوى بينه وبينهم الى ان يتبين الحق وتتميز الفرقة الحقة من الفرقة المضلة.
وانصف رسول الله (صلى الله عليه واله) المسلمين، ففي بداية تأسيس الدولة الاسلامية كان اغلب المسلمين من الفقراء والمساكين فكان رسول الله (صلى الله عليه واله) يشد حجر المجاعة على بطنه ويطوي يومه جائعا ولم يشبع ويترك المسلمين جائعين، كما يفعل قادة ورؤساء الدول في عصرنا الحديث اذ يتنعمون بالملذات وشعوبهم تتضور جوعا.
انصاف الناس من نفسه
وانتهج طريق رسول الله (صلى الله عليه واله) في انصاف الناس من نفسه ربيبه وتلميذه امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) اذ ضرب اروع الامثلة في انصاف من نفسه ونذكر لذلك بعض الموارد.
فقد جاء في شرح النهج لابن ابي الحديد ان رجلا ادعى على الامام علي (عليه السلام) دعوى وكان جالسا في مجلس عمر، فالتفت عمر الى الامام علي (عليه السلام) وقال له: قم يا أبا الحسن فاجلس مع خصمك، فقام علي (عليه السلام) فجلس مع خصمه فتناظرا، ثم انصرف المدعي ورجع علي (عليه السلام) إلى محله وهو متغير اللون ولما سأله عمر عن حاله اجاب(عليه السلام): كنيتني بحضرة خصمي وقلت: قم يا ابا الحسن وسميت خصمي باسمه، هلا قلت قم يا علي فاجلس مع خصمك؟
فاعتنق عمر علياً وقبل وجهه وهو يقول: بابي أنتم، بكم هدانا الله، وبكم اخرجنا من الظلمة إلى النور.
فالعجب كل العجب ممن يسعى الى النزاعات ويتمسك بكل وسيلة للنيل من خصمه بالباطل، في حين نرى ان الامام(عليه السلام) لا يقبل ان يتفضل على خصمه حتى بالكنية.

قبس نهجه (عليه السلام)
وفي رائعة من روائع امير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة يقول : (واللّه لأن أبيت على حسك السّعدان مسهّدا، و أجرّ في الأغلال مصفّدا أحبّ إلىّ من أن ألقى اللّه ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، وغاصبا لشيء من الحطام.. واللّه لو اعطيت الأقاليم السّبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته)
فما اروع أمير المؤمنين (عليه السلام) واشد كونه اعجوبة من عجائب الله في الدنيا فلا يقبل الدنيا بما فيها ثمنا مقابل ظلم حشرة صغيرة يسلبها قوتها.
وكلام اخر لأمير المؤمنين (عليه السلام) يذكر فيه ترويضه لنفسه وانصافه لرعيته وذلك عندما تولى الخلافة فعاش فيها عيشة الفقراء بل ادون منهم مع انه كان باستطاعته ان يعيش عيشة الاغنياء والمترفين اذ يقول الامام (عليه السلام): (لو شئت لاهتديت الطّريق إلى مصفّى هذا العسل ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشّبع أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى، وأكباد حرّى.. أأقنع من نفسى بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدّهر؟ أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش).
واين كلام امير المؤمنين هذا من كلام طاغ من طغاة بني امية وهو عبد الملك بن مروان الذي خطب بالمدينة وقال فيها قال (.. والله لا يأمرني احد بتقوى الله بعد مقامي هذا الا ضربت عنقه) ثم نزل.
اذ يرى ائمة الجور لأنفسهم ميزة على الناس وعلو لا يرتقي الى مقامه الاخرون، اما ائمة العدل فلا يرون لانفسهم ميزة على الناس بل يكون احدهم بينهم ويعيش معاناتهم ومآسيهم ويكون تأثيره عليهم اكبر.

فرض الله على أئمة العدل
يروى ان حادثة وقعت بين امير المؤمنين (عليه السلام) وبين عاصم بن زياد وقد لبس الخشن من الثياب وتخلى عن الدنيا وأهمل أهله وولده فقال الامام (عليه السلام) لعاصم: (يا عُديَّ نفسه، لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك) قال: يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك، فقال أمير المؤمنين: (ويحك اني لست كأنت ان الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره).
وتحصيل ما سبق ان الانصاف من مكارم الاخلاق ولا يتصف به الا من حاز المراتب العليا من جهاد النفس وآثر الحق وان كان يضره في ماله او جاهه او غير ذلك.
وقد ورد في فضل الانصاف الكثير من الاحاديث فقد جاء عن امير المؤمنين (عليه السلام) انه قال: (الا انه من ينصف الناس من نفسه لم يزده الله الا عزا).

نشرت في الولاية العدد 86

مقالات ذات صله