تجسد القيم الحضارية في نهضة الإمام الحسين

يييي

زهراء عبد الله كاظم

عندما يأتي عاشوراء تتوج القيم وترتسم الابتسامة على شفاه المبادئ المتألقة في سماء الوجود الإنساني، ذلك أن الإمام الحسين (عليه السلام) قد أعطى ورسم رموز القيم الانسانية، وذلك واضح وجلي في واقعة كربلاء التي لم تكن واقعة تاريخية فحسب، وإنما كانت معركة حضارية تلخصت وتجسدت فيها جل التجارب البشرية من يوم آدم إلى حين استشهاده «عليه السلام» حتى فاحت من عبق شهادته «عليه السلام» أعظم معاني الحياة، وحتى رسمت للمستقبل خطوطه.

كانت أعظم نهضة للحق على الباطل في جميع تاريخ البشرية، اختصرت لنا الطريق لاستقراء واستنطاق التاريخ ليعيننا في تحدياتنا الحضارية ويكفي لتفجير ثورة حضارية في كل زمان ومكان على مر التاريخ؛ وذلك من خلال ما سجلته لنا كربلاء من معاني الحضارة وأسسها ومقوماتها وأسبابها.
فنهضة الإمام الحسين[عليه السلام» في كربلاء إنما هي رمز التضحية من أجل القيم والمبادئ، وما حضارتنا إلا قيم ومبادئ نسعى لتحقيقها، وما صراعنا إلا مع من يعارضها، ولو كان من الممكن أن تكون الدنيا من غير قيم لآثر الإمام الحسين «عليه السلام» البقاء ولما رجح أن ييتّم الأطفال ويشرّد النساء حتى أصبحت فاجعته «عليه السلام» تبكي العالم أجمعه.
إن دم الإمام الحسين « عليه السلام] في كربلاء يعد نهجاً قويماً، فعلى دمه تبنى حضارات وتحيا قيم, وهو لم يسل إلا بعد أن تصدعت أركان الحضارة المتمثلة في محورية الانسان واستقامة القانون وعدالة الحاكم, فتحولت بمحو شخصية الانسان وجعل المادة هي المحور بانحراف القانون وتبديل أحكام الله فبجور السلاطين وفسقهم انحدرت البشرية في واد سحيق إلى أن وصلت أسفل السافلين عند يزيد ابن معاوية.
ثار [عليه السلام] منادياً بأركان الحضارة التي محقت ولسان حاله يقول: لا قيمة إلا للإنسان، ولا عمل إلا بالشريعة، ولا طاعة إلا لحاكم عادل، فما بالنا نحن وما لنا لا نتعلم منه؟ لا سيما ونحن في عصر نصارع فيه حضارة جاهلية قامت على محورية المادة، وجعلتها هي القيمة، فاضطهدت بذلك الإنسانية حتى أصبح الانسان يموت جوعاً ومرضاً.
هكذا تعلقت الأنظار بالمادة فأصبحت هي المحور فضلا عن فقدان الحريات ، إذ أصبحت الحرية في واقعنا لفظاً يقال وحروفاً تكتب لا وجود لمعناها, وحتى هذه الحرية المدعاة التي يجب أن تكون ملازمة للإنسان طالما جعله ملكاً للمادة وخادماً لها، وهذه نتيجة طبيعية عندما تكون المادة هي الهدف فلا شيء يعوق الوصول إلى الهدف سوى سحق القيم والأخلاق الفاضلة النبيلة.
ولو نظرنا إلى القانون الذي يحكم العالم اليوم نجده بعيدا كل البعد عن قانون السماء ، فما هو إلا قوانين قامت لخدمة المادة بعيداً عن الانسان وحقوقه، وهي قوانين لا تراعي حتى حقوقه الفطرية ، وما قام به بعض الحكام للتوفيق بين القانونين (قانون المادة وقانون السماء) لم ينتج لها إلا شبحاً مستكبراً أراق دماء كثير من البشر وأفقر وشرّد أكثر، ولهذا نستطيع القول بأن نفس الأسباب التي من أجلها قام الامام الحسين [عليه السلام] ما زالت موجودة في عصرنا ، فماذا يجب علينا أن نفعل في هذه الحالة ؟ أنقول مثلما قال عبد الله بن عمر: عليّ بمسجد رسول الله «صلى الله عليه و آله] أعبد ولا دخل لي فيما بين السلاطين؟ أم نترجم ما قاله أبو هريرة : (الصلاة خلف علي أتم، والطعام مع معاوية أدسم والجلوس فوق التل أسلم)، أم ماذا نفعل حتى ننجح في صراعنا الحضاري؟
مثال للنهضة الحضارية:
علينا ان نبحث عن مثال نهضوي نقتبس منه ما يعيننا في صراعنا الحضاري ولا نجد مهما بحثنا غير الامام الحسين «عليه السلام] الذي يمثل بحق نهضة حضارية جمعت أعظم صراع بين قيم السماء والأرض يمكن الاستلهام منها في كل زمان ومكان , إذ يمكننا من خلال هذه النهضة أن نعرف أسس النهضة ومبادئها وإستراتيجيتها وأهدافها ، ويمكننا أيضا أن نتعلم أولاً كيف نضحّي من أجل القيم وكيف نعمل من أجل المبادئ، و كذلك يمكن أن نفهم أن الحياة قيم ومبادئ فإذا ما انتفت هذه القيم والمبادئ تنتفي معها الحياة ، وهذا لا يعني أن ننتحر ولكن نعمل من أجل إنزال القيم إلى أرض الواقع حتى نموت دونها كما قال الإمام الحسين عليه السلام : (ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقاً فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما)، ويمكننا نقل كربلاء إلى واقعنا بأن نجعل الإصلاح هو غايتنا، عندها تتقدم الإنسانية نحو الأفضل وهذا هو هدفنا كما قال الإمام الحسين عليه السلام : (ألا وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي) وأن نعيد تاريخ كربلاء لكي نعيد لأهل البيت عليهم السلام حقهم من خلال نشر فضلهم ومذهبهم لا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه الفرق وكل يدعي الحق.. وحينها تكون الحضارة الإلهية على جميع بقاع الأرض محضة ..

نشرت في الولاية العدد 86

مقالات ذات صله