ملاحم مشرقة

hosain_pic19_hq

شاكر القزويني

هل كانت تلك الفواجع تراود ذهنه، لم يكن يرتسم على محياه سوى علامات الاستبشار وأن كل شيء قادم هو خير، وأن النصر لامحالة متحقق.
السلام والرضا اللذان كانا يلفان كل كلمة وكل فعل يقوم به، أطاحا بكل شك وريبة قد تخالج النفوس من إصراره هذا على المضي.
كان على يقين راسخ وعاى رؤية تكاد تبصر كل الخطى التي رسمها في طريقه الى الكوفة.. بل الى كربلاء.

كان كطود شامخ من الثقة والقدرة والعزة، أودعها الله تعالى فيه، فكان حسينا علويا من آل بيت رسول الله ومن أهل الكساء، فهو خلاصة التوحيد وعلة النصر اذا ما اراد الإنسان ان ينازل ليوقد شعلة الحرية.

أستار الجنان تفتح للمشتاقين
كان يتمنى ان يكون الليل جملا لأصحابه.. فالقوم يطلبونه وحده، وأصحابه أبوا إلا أن ينالوا مكانة في هذا المجد، وغاية من هذا الدين الذي عرفوه منه ومن أبيه ومن جده، فرهنوا مصايرهم بطريق ليس يقيم للدنيا حسابا والحياة عندهم فيه أبدية لا تقبل التأجيل ليوم آخر، هي فردوس حفظته مخيلتهم وتيقنوا وجودها في نهاية هذا الطريق القصير الآمن على دينهم وغايتهم، فكانت الجنان تراودهم كواقع يتبادل الأدوار مع صور هذه الدنيا التي بخسوها حتى غابت عن وجهتهم، فهم يرون ويسمعون ما في عليين، وكان قائدهم يفتح استارها لهم كلما اشتاقوا، إلا ان الأبواب عندهم اليوم، قطوف دانية، سوى ان تمد يدك لتجني، وكانت الدماء تتسابق للفوز والارتواء.

الحزن على قاتليه وتساؤلات مشفقة
نظر الى أقصى القوم، كانت قلوبهم ترتجف هلعا وخسارة وذهولا مما يفعلون، كان يسمع جمل الرسائل التي بعثوها وهي تتردد على ألسنتهم كأنها حروف مشفرة، تتكرر وتتكرر في أفواههم، أن أقدم يا ابن رسول الله.
كانت تتراجف الكلمات وهي تنفر من رأس محموم.. ونفس هاوية الى قعر شيء هو من صفات الهول والشر المستطير.
دب الحزن في سريرته من أجلهم، وكادت تنطق دموعه هواجس خوفه عليهم، إذ لا ينفع ندم بعد هذا، يحدّث نفسه وهو يقلّب تداعيات هذا الموقف بين يديه، ألسنا رحمة للعالمين.. ألسنا نرفع الظلم عنهم، وتلك الحرية والكرامة لمن سنعطيها، ألأهلي وأصحابي فحسب؟ ماذا سيقولون للناس في كل زمان ومكان عن إصرارهم في قتلنا وتعذيبنا، لم يحشدون كل هذا العدد من الرجال والخيل والعدة ؟ ونحن رهط لا يتعدى ثلاثة وسبعين رجلا وبعض النسوة والأطفال، هل يخافوننا لهذا الحد، اذا كانوا عارفين حقنا ومتيقنين من منزلتنا الى هذا القدر من الخوف والرهبة والفزع، وهم يعلمون عظم أمرنا ومكاننا الحصين في هذا الدين، إذاً لمَ يُجمعون على ذبحنا ومواجهة قدر مشؤوم بفعلهم هذا، لن تستطيع الأرض والسماء بأنهارها وأمطارها وقواميسها ان تطهرهم منه. كيف سينجون بعد هذا الخسران المبين..أو لسنا نحن سفينة النجاة ونحن هو الخلاص؟

سيوف السلام ترعب الخوف والشر
كانت كل تلك الهواجس والأفكار تمر في سرعة مذهلة وهو يسير بخطى ثابتة وعلى مهل أمام جنده المصطفين كجبال من الغضب والثورة الراسخة في الإيمان، مستعجلين التوثب لشن حقيقة أخرى تتحدثها الصفاح والرماح والقلوب وهي ترتجز قصائد الفوارس المدججة بالعقيدة الناصعة والموشحة بالحب والسلام، نعم كانت سيوفهم هي سيوف السلام والأمن، تبعث رسائلها لترعب القتل والخوف والشر في كل مكان، انها الصوت الذي جهرت به السماء لترعب الظلم والطغيان وتقض مضجع القهر والعبودية.
ترنيمة ظلت تعزفها النحور المنطلقة نحو الشمس لترسم معاني جديدة لها، أكثر نصوعا ولمعانا، اكثر دفئا وطيبة وفرحا، أينع نماء وخصبا، فهي الجنان إذ تفوح كلما عانقت الأرض.. كانت هذه الأرواح المتعانقة في فضاء كربلاء تنشد ما عجزت عنه الطبيعة وجمالها الفاتن الساحر أن تأتي بمعجزتها في الخلق الحر المبدع، فتجسدت كل الرسالات السماوية، ترتلها ملائكة مصطفّون، ليبثوا الحياة في الأرض بعد موتها، قهرا وجورا وكمدا.

سفينة نجاة الأمة
كان شراع سفينته يتقد اشتياقا للعبور معهم.. تمنى لو انه ترجل مع الزاحفين، لو انه كان رجلا.. لكنه كان يحفظ عهده الذي كتب قبل الخلق.. أن احمل أتباع آل بيت محمد عليهم السلام.. اعبر بهم يوم الدين البحور الغاضبة وهول أعاصيرها بكل أمان.. لترسو بهم على شواطئ النعيم.
النعيم هو ذلك الشعور الذي انتاب صفوف جنده وهي تقاتل الكفر والضلالة والجهل ومهاوي الجشع. النصر كان هو الكلمة الوحيدة التي تتداول الجند المضرجين بالعزة والفخر والطمأنينة.. لأن من غير الوارد ألا يكون النصر حليفهم.. قد لايكون نصرهم ما يفهمه غيرهم.. فهناك وهم كبير يلف هذه المعاني، وهناك يقين، فقد كان ابو عبد الله متيقنا من النصر، وكانت المعاني التي يصوغها موشحة به، مطوقة بأهازيجه مفعمة بكبريائه وعزته.

الرأس يرتل سورة الكهف
شعور واحد وطريق واحد حملهما معا حتى نهاية المشهد الطويل، ممتدا الى اقاصي الحياة والموت، الى آخر يد قد يحركها كائن على قيد الوجود، انها حياته التي امتدت الى كل شيء حي له قيمة في معاني الوجود، ظلت كلماته تعبر عن وجودها المدوي، في مسيرته كلها، لم تتوقف والرأس محمول على القناة، فهي لم ولن تنقطع عن الحضور والتلاوة، لأنها الكهف الذي ستلوذ به كل الطيبات، الأماني الطيبة، والعيشة الطيبة، والأرض والسماء الطيبة، كل شيء طيب، يجعل الإنسان كائنا جميلا حرا خالصا لله الرحيم الكريم.

مقالات ذات صله