القُرْآنُ يُخاطِبُ الْإنْسانَ

موضوع-قرآن

مرتضى الحلي

إنَّ مِن أبرز ما تمثَّلَ به الخطاب القرآني هو المنحى الإنساني بحيث جعلَ الإنسانَ موضوعه الرئيس حكمةً وقصداً، فضلاً عن شموليّة الخطاب القرآني للعالمين أجمعين، وهذا المنحى الإنساني الذي تجلى في دلالات النص القرآني لفظاً ومعنىً وهدفا يشير إلى حقيقة مهمةٍ جدا وهي أنَّ القرآن الكريم هو كتابُ للإنسان بما هو إنسان قبل التلبس بأيِّ عنوان آخر، لذا جاءت كلمة الناس في عمومها النصي دليلاً على ذلك وبخاصة في بدء النزول القرآني في مكة، حتى كانت أكثر من غيرها استعمالاً في آيات القرآن الكريم بحيث بلغ عدد ورودها 179 مرة.

آيات بينات
كلمة الناس فيها من العموم ما لا يخفى على أحد حتى أنَّ سيبويه قال: الناسُ أي الناسُ الناسُ بكل مكان وعلى كل حال كما نعرف(لسان العرب: ابن منظور: مادة أنس).
إذاً إذا عرفنا أنَّ الناس هم أولاً وبالذات مقصودون بالخطاب القرآني الكريم، فماذا يُريدُ القرآن منهم؟
طبعاً إنَّ القرآن الكريم قد امتاز بالأجوبة الذكيَّة الجاهزة نصّاً عن كل سؤال مُتوقع طرحه الناس أنفسهم، في أي بعد كان، سواء على مستوى الكون أم العقيدة أم الحياة أم المصير أم غيرها.
وهذه الإجابات الذكيَّة الجاهزة قرآنياً تكشف عن عمق الحكمة والدراية الإحاطيّة تكوينيا وتشريعيا التي هي من أبرز معالم الله تعالى وصفاته.

تدبير الله في هذا الخلق
قال تعالى: (( وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ )) النمل6. والمعنى: وإنك -أيها الرسول الأكرم محمد: (صلى الله عليه وآله وسلَّم) لتتلقى القرآن من عند الله, الحكيم في خلقه وتدبيره الذي أحاط بكل شيء علمًا. وتتجلى هذه الإجابات في البعد العقيدي الديني كقوله تعالى. (( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ )) الحديد25.
فالناسُ بما هم أُناسٌ هم مادة الخطاب القرآني القويم وهم مَعنيون بمفاد الخطاب وأهدافه الحياتية. أما الأوصاف المتأخرة اكتساباً فهي تأتي من التلبس الإرادي بالعنوان الصالح أو الطالح، لذا نجد تعدد التوصيف للناس بعد تحقق الإسلام والإيمان والهدى واليقين في نفوسهم أو عدم تحقق ذلك بسبب كفرهم أو فسقهم أو ظلمهم قد أخذ منحى آخر في سياقية الخطاب القرآني فتغيَّرتْ كلمة الناس إلى الوصف الفعلي الذي تلبَّسوا به واقعا حتى أصبح الوصف الفعلي هو مادة الخطاب القرآني بحيث تجد قصد النص يتجه باتجاه العنوان وبيان هويّة المُعنون به كقوله تعالى: الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ*والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*. هذا على مستوى الهوية الصالحة والعنوان الإيجابي، أما على مستوى بيان العنوان السلبي والهوية الضالة، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ*خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ) البقرة 1-7: لاحظوا مدى وضوح الوصف والهوية التي اكتسبها الناسُ إراديا بعدما عُرِضَتْ عليهم دعوة الله تعالى، فألبسوا أنفسهم وصفاً مصيريا إيجابا أو سلبا. لذا إذا أردنا أن نفهم قصد الخطاب القرآني وحكمته ودلالاته فعلينا أن ندرك جيدا منهجيَّة الخطاب القرآني ذاته وتخطيطه الذكي في المبدأ والمنتهى معرفيا، ذلك لكون مُنشئ النص القرآني لفظا ومعنى ودلالة وحكمة هو الله تعالى.

منهجيَّة الخطاب القرآني
ويمكن الوقوف على منهجيَّة الخطاب القرآني في حال الفحص والبحث والمتابعة لمسائل القرآن من موضوعات ومحمولات وأحكام ونتائج، بحيث نجد الوعي والقدرة الإبداعية الحيَّة تتكيَّف مع الحياة والواقع والإنسان ثبوتا وتغيَّرا، لا سيما ما أصَّلهُ القرآن الكريم في خطابات العموم والإطلاق والفوقانيات والقضايا الحقيقية وجوديا التي لا تقبل التموضع لا وقتاً ولا مكانا.
ومثال على ذلك خطاب الله تعالى للإنسان بما هو إنسان حتى بلغ عدد الاستعمال 56 مرة نصاً، أو للناس بما هم أناس في قوله تعالى: (وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) إبراهيم34، وقوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً) الإسراء67، ِوقال تعالى (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ) مريم67، و(وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) الأحقاف15.

نشرت في الولاية العدد 86

مقالات ذات صله