الشيخ محمد صنقور
من الواضح ان المراد من الاختلاف المنفي عن آيات الكتاب المجيد هو التناقض بين معاني الآيات بأن يقتضي مدلول بعض الآيات شيئاً ويقتضي مدلول آيات أخرى نقيض ذلك الشيء، وأيضا نفي التفاوت في الفصاحة والبلاغة وقوة النظم ونفي عدم التجانس في المنهجية بين آيات القرآن بحيث تكون على غير نسق واحد كأن يقتضي بعض آياته الدعوة إلى منهج معين ويقتضي بعضها الآخر الدعوة إلى منهج غيره.
التفاوت والاختلاف
ان كتابا كالقرأن الكريم بهذا الحجم والتنوع في الموضوعات والفصاحة في العبارات قد استغرق نزوله عقدين من الزمن ومع ذلك لا اختلاف بين اياته لدليل على انه من عند الله فعندما نقف على دواوين الشعراء المتميزين نجد فيها تفاوتاً بينا بين قصائدهم حتى قيل ان الشاعر ليس شاعرا في جميع قصائده وهكذا الأمر عندما نقف على خطب البلغاء ومحاوراتهم.
والامر اكثر وضوحا بالنسبة للعلماء والحكماء فلا يكاد يتفق لعالم او حكيم واحد ان يحتفظ بمجموع ارائه الكثيرة لانه يجد نفسه في سنته الثانية اكثر فهما وعلما من سنته الاولى وهكذا او تظهر له ادلة لم يطلع عليها من قبل.
وهكذا الحال عند رجال القانون فنراهم حينما يشيّدون منظومة من القوانين ويروّجون لها لا يلبثون حتى يقفوا على اخطاء او ثغرات فيها كانوا يرونها صواباً فيرون لزوم تداركها.
بلاغ حجة القرآن
اما القران الكريم الذي نزلت سوره وآياته على صدر رسول الله صلى الله عليه وآله في اكثر من عقدين من الزمن مع ان المعاني التي تصدى لبيانها متنوعة, فبعضها يتّصل بسنن التاريخ والبعض الاخر يرتبط بالتشريع على تشعبه وسعة تفاصيله وبعضها تصدى لبيان اصول العقائد وايات تصدت لبيان القيم والفضائل وتحدثت ايات عن حوادث وقعت في التاريخ ووصّفت لاحداث وقعت في عصر النص وكشفت عن مغيّبات اخبرت عن وقوعها في مستقبل الايام او السنين وتنوّع موضوعاته وتفاوت الزمن الذي نزلت فيه واختلاف الاسباب التي نشأ عنها النزول وتباين الاحوال والظروف، فايات نزلت والحرب قائمة واخرى نزلت في ظرف السّلم وبعضها نزل بعد النصر وبعضها نزل بعد الهزيمة ونزلت ايات في السفر واخرى في الحضر وايات نزلت والنبي (صلى الله عليه وآله) في شعب ابي طالب محاصرا ونزلت حينما كان طريدا يقذفه صبيان الطائف بالحجارة ونزلت حينما خرج من مكة مهاجرا يتوارى عن اعين المشركين في الجبال ونزلت حينما عاد إليها فاتحا مظفراً، وخاطبت ايات القران صنوفا عديدة من الناس فبعضها خاطب المشركين وبعضها خاطب المؤمنين وهكذا اهل الكتاب من اليهود والمنافقين والمترفين والجبارين والمستضعفين.
انعدام التفاوت والاختلاف في القرآن الكريم
فمع كلّ ذلك التباين في الاحوال والظروف وكلّ هذا التنوع في الموضوعات والخطابات لانجد في القران تفاوتا في النظم فلا نقف على اية يصح ان يؤتى باحسن منها والمتدبر للقران الكريم يلاحظ انه منظومة متناغمة متجانسة ذات سياق واحد فليس في أثنائها ماينقض الاخر بل يقف على منظومة عقائدية واخرى قيمية وثالثة تشريعية ومنظومة في سنن التاريخ مفعمة بتوصيف متناه في الدقة لأحوال السابقين من الانبياء وتجارب الامم فهي متداخلة ومنتظمة في اطار واحد لا ينبو منها شيء ولا ينافر بعضها بعضاً مع التباين في الاحوال والموضوعات المقتضي للتدارك الدائم والتهذيب واعادة التنظيم والترتيب.
هذا ما تحدّت به الاية المباركة عموم الناس مجتمعين ومنفردين الحاضرين منهم في زمن النص واللاحقين بهم الى يوم الدين.
اما النبي (ص) فقد كان يلقي على الناس الاية في صدر الدعوة فيحفظونها ويدوّنونها ثم تمضي الايام والسنون وتتقلب الاحوال فلا ينظر فيها ولا يعيد صياغتها ولا يستجد عنده ما يدعوه لاسقاطها او تهذيبها فلو كان ما قد جاء به مشابها لما ياتي به البشر لاقتضى ذلك ان يضفي على ماجاء به حصائل ما انتجته التراكمات في الخبرة والتجربة الا ان القرآن لم يكن كذلك بل هو كالدرر المنتظمة والمتناسقة في عقد واحد (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ الله الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) «النور/35».
نشرت في الولاية العدد 86