من لآلئ غدير الإمام علي (عليه السلام)

_07F2489

أ.د.صاحب محمد حسين نصار

من مقولة وصي رسول الله صلى الله عليه واله أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، في عهده لمالك الاشتر لما ولاه مصر: (ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق،..)، فكانت هذه المقولة صوتا ودرسا، حينما بلغت الأمين العام السابق للأمم المتحدة (كوفي عنان) قال: (هذه العبارة يجب أن تعلَّق على كلّ المنظمات، وهي عبارة يجب أن تنشدها البشرية)، وبعد أشهر اقترح (عنان) أن تكون هناك مداولة قانونية حول كتاب الامام علي عليه السلام إلى مالك الأشتر واللجنة القانونية في الأمم المتحدة، بعد مدارسات طويلة، عرضت: هل هذا الكتاب يرشح للتصويت؟وقد مرّت عليه مراحل ثم المقترح، وصوتت عليه الدول بأنه أحد مصادر التشريع الدولي.

يَنظرُ أمير المؤمنين عليه السلام إلى الناس نظرة بمنتهى الواقعية تحت سراج الحكمة والتعقل, من خلال عهده إلى مالك الأشتر (رض), وهو يوصيه ويبين له كيف ينظر إلى الناس كي يكون تعامله معهم على أساس رؤية واضحة, فأمير المؤمنين عليه السلام في حديثه هذا يقدم فلسفة لكينونة الإنسان في الأرض وما تحمل هذه الكينونة من مراتب, وسنحاول أن نستجلي أهم المسائل المهمة التي تهتم بالشأن الانساني في هذا الحديث وكما يأتي :

اولاً: معايير التفضيل بين البشر
خلق الله تعالى البشر وكرمهم على بقية الخلق, (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا), وهذا التكريم ينطلق من كونهم بشر لا أكثر, من دون أي إضافة أخرى, مع أن هناك عناوين مختلفة يمكن أن تكون معيارا للتفضيل, كفضل المؤمن على الكافر, إلا أن نظرة الخالق إلى الإنسان بمحض كونه إنسانا, هي نظرة التكريم على سائر الخلائق.
وبحكم العلاقات التي لا يمكن لأي فرد أن ينسلخ عنها, وكل إنسان يعيشها حاجة طبيعية, نشأت معايير للتفضيل بين البشر أنفسهم بعد مرحلة التكريم العام الذي كرمهم به الله تعالى.
ونشأت تلك المعايير للتفضيل بين البشر أنفسهم من خلال عدة قوانين وقيم دينية وعقلائية أصبح يتفاضل بها البشر بحسب ارتباطهم بها من خلال الفعل والتطبيق.
وثمة معايير مختلفة للتفضيل بين أبناء البشر, وقد أكد القرآن الكريم على أهمها, وهي التقوى, لقوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ), وكذلك معيار العلم, كقوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ).

ثانيا : الاعتراف بإنسانية الإنسان:
لقد عانت البشرية من التمييز العنصري والديني, منذ قدم تاريخها وإلى اليوم, ويتأتى هذا التمييز من اضطراب آلية تقييم الفرد, وعدم وضوح القيمة الطبيعية المودعة في كينونة الفرد وهي (الإنسانية), ومن خلال كلام أمير المؤمنين عليه السلام, يتضح لنا البعد الإنساني في تقييمه, فهو عليه السلام لم يغفل ذلك العنوان الإنساني الذي ينطوي تحته كل فرد حتى الكافر, بمعنى أنه عليه السلام قد أدخل في دائرة الوعي ذلك الجانب المُكرَّم في كينونة الفرد هو الإنسانية, فهو عنوان مُكرَّم بنص القرآن الكريم كما سلف ذكره, وعلى هذا الأساس يتم التعامل مع الآخر على مختلف توجهاته, من خلال رؤية واقعية عقلائية, تعترف بالعنوان العام الجامع للبشرية على مختلف مراتبها.
إن أمير المؤمنين عليه السلام وهو يصنف الناس إلى أخ في الدين اونظير في الخلق, ليس بصدد تفضيل الفاضل على المفضول, بل بصدد الاعتراف بالآخر المفضول إلى جانب الفاضل مع وجود الفارق, وهذا الاعتراف يأتي في إطار القيمة التكوينية المودعة في صميم المعنى الإنساني الذي يتمتع به كل فرد, إلا ما شذ عن الإطار الإنساني وأخذ ينسلخ عن الإنسانية نحو الحيوانية والتوحش, مثل الطواغيت الفراعنة فإنهم خارجون عن تصنيف الإمام عليه السلام, وذلك الخروج واضح بعدما اتضح معيار الاعتراف بالآخر تحت عنوان التكريم.

ثالثا: حدود الاعتراف بالآخر
من خلال قول أمير المؤمنين عليه السلام سوف يكون التقييم والتفضيل على أسس موضوعية, فيتم التعامل مع غير المسلم في إطار إنساني عام, وإنسانيته محفوظة مادام يعيش في حدودها, اما لو تعداها فإنه يكون خارجا من الأساس, ولا يمكن حمله على الإنسانية إذ لا مبرر لدخوله الإنسانية وهو يتنكر لها من خلال طغيانه وفرعنته وجبروته وبطشه.
إذن ما دام الإنسان يعيش القيم العامة التي تسالم عليها العقلاء, فهو تحت عنوان الإنسانية, وإن لم يعتنق الدين, غاية الأمر انه يبقى هو المفضول, والمتدين مفضولا وفق القيمة المضافة إلى هذا الأخير, وهي قيمة التدين.

رابعاً: الحوار من مقتضيات تصنيف أمير المؤمنين عليه السلام:
من مشاكل الدهر, فقدان الحوار بين الأفراد والمجتمعات والامم, وعدم الحوار مع الآخر عبارة عن رفض الآخر, وهو ينم عن نظرة دونية تجاه الآخر, ومن الخطأ أن يفهم الحوار على أنه تأسيس لشرعية الآخر, بل هو أسلوب واقعي وموضوعي, وقد تم حوار بين الباري عز وجل وبين إبليس الخارج عن الطاعة والامتثال, وسيرة النبي صلى الله عليه واله وأهل بيته (عليهم السلام) زاخرة بمواقف حوارية.
إن تصنيف أمير المؤمنين عليه السلام للناس يؤسس لضرورة بل شرعية الحوار, فلما كان ثمة مبررٌ للاعتراف بوجود الآخر وهو البعد الإنساني, فإن الحوار من ملازمات ذلك الوجود, وبالحوار تم تبليغ رسالات السماء, وبالحوار تم إلقاء الحجة على أعتى الخلق..
إن المناظرة في الخلق, واقتران الفرد بالفرد تحت عنوان الإنسانية, يعزّز ضرورة الحوار كمخرج من أزمات العلاقة بين الأفراد على مختلف الأصعدة والمجالات, (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)، وفي هذه الآية تكريس للدعوة والحوار, ومعلوم أن الكافر والملحد مشمول بتلك الدعوة, ولا يعقل أن تتم دعوة من لا وجود له ولا إنسانية, وهذا مقتضى تكريم الله عز وجل للإنسان عندما خاطبه بالدعوة, وأرسل إليه الرسل والأنبياء, لذلك فإن تصنيف أمير المؤمنين عليه السلام يأتي في سياق مقتضى التكريم الإلهي للإنسان, ذلك الموجود المكرم والمفضل على سائر المخلوقات, ومن ثم تأتي دوائر أضيق للتفضيل من خلال الاستجابة للدعوة والارتباط الحقيقي بقيم السماء..

الخاتمة :
ان التعامل الذي برَّزته الدراسات الحداثوية اليوم تحاول ان تستبعد كل ما هو اصيل في الدين الاسلامي، ولا يخفى على كل باحث في الدراسات الغربية أنها تنادي في كل مرة بالاصلاح والنهضة والتجديد بأفكار ترسم صورة على التعامل الانساني وتطبيقات حياته اليومية من تعامله مع الاخر وحريته وانسانيته فنجد من نادى بالانسانوية اليوم كمفهوم وكنزعة منذ عصر النهضة وحتى عصر الحداثة وما بعدها، ولكن الاسلام سبق هذه التنظيرات قبل العقل الغربي الذي يتجه نحو: العدمية كنمط سلوكي يجعل الانسان آلة خالية من القيم والشعور، وتارة يحاول ان يسلبه الحرية من الوجود ليستعبده، قال الامام علي لابنه الحسن (عليهما السلام)، (ولاتكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا)، ومرة يفقده كينونة ذاتيته فيجعله نمطيا خارج ابداعاته الروحية التي اودعت بها طاقات لاحدود لها، وبهذا يفقد الانسان القيمة الروحية والتاريخية الزمنية لوجوده من سلبه لهذه الذاتية التي اكد عليها امير المؤمنين عليه السلام (وكفى بالمرء جهلا الا يعرف قدره)، او قوله (رحم الله امرءأ تفكر فاعتبر واعتبر فابصر…)، ومن هذا نستشف ان الانسان اليوم مفضل ومكرم بانسانيته وكمالاته الروحية ليرتفع بها من الدونية الى العلية وهي التقوى وهذا ما اكدته نصوص القران العظيم وكلمات الرسول الاكرم صلى الله عليه واله واهل البيت عليهم السلام.

نشرت في الولاية العدد 88

مقالات ذات صله