جنون المبدعين رؤية كونية خلاقة

الابداع

عذراء عبد الجبار الياسري

الحساسية المفرطة والقدرة على التركيز لدى المبدعين والالتفات الى أمور لا يراها غيرهم سواء كان ذلك المبدع شاعرا أم روائيا أم رساما أم قاصّا تجعلهم عرضة لكثير من العلل النفسية ولاسيما التوتر العصبي الذي يلازمهم طوال حياتهم، فهم يتأثرون أكثر من غيرهم بالانتكاسات الحياتية والتصدعات الاجتماعية والضغوط التي تمارسها الظروف الصعبة والمحن والانكسارات على الناس، فيتصدعون بشكل مفرط ويستثارون بتطرف وحدّة.

قلق كوني لوعي مبدع
ذلك التأثر وردود الفعل الشديدة الواضحة ما هي سوى استنفار للوعي والإحساس لديهم يمنحهم القدرة على منح الإجابات ووضع الحلول ورأب الصدع في الأزمنة والأمكنة المتصدعة والتداعيات المنثالة على الواقع، فضلا عن التحسس بالجمال وكينونته المدهشة بانفعال مبدع وشعور متدفق، يترجم الى نتاج ابداعي خلّاق تتدفق منه الرؤى التي تعجز عن إتيانها الأفكار والمعادلات الصعبة متناغمة مشوبة بصور الجمال ولمحاته المدهشة الساحرة .
فحالة التأهب والاستنفار لحواس ووعي المبدع وحالة التفتح الذهني للحياة وما يعتريها من أحداث تمتد الى أقصى بقعة في الكون والى أبعد خفقة بالزمان، تجعل منه كائنا يقف على شفا التصدعات والانهيارات وفي مفترق طرق الأحداث والكوارث والأزمات، متحسسا ومتوجسا ومتفاعلا، بل ذائبا حتى النخاع في مساماتها ومتغيراتها، ليعيد تصوير ورسم الحياة والكون والزمان بلغته المبدعة وفرشاته الخلاقة وأحلامه المدهشة بشكل أجمل وأبهى، فهي إعادة خلق للمحسوس والملموس وفق رؤية مبدع منح طمأنينته وسلامه ثمنا لإبداعه الذي قد لا يأتي بثمن رغيف خبز له، وهي انتكاسة أخرى تدفعه نحو الانهيار والانطوائية بسبب صعوبة التكيف مع المجتمع، وقد تدفعه أحيانا للتصرف كالأطفال.

جنون الإبداع
ليست العلة النفسية التي تصيب المبدع كتلك التي تصيب الشخص العادي من حيث تعطيل القدرات والانخراط في علاقات ناجحة داخل المجتمع، فالمبدع لطالما كانت علاقاته لا تشوبها شائبة من حيث تأثيره على محيطه ووضعه وفاعليته في مجتمعه الذي يعيش فيه، فضلا عن ان قدراته الفكرية والحسية تسير على الدوام في خط بياني عالٍ وبوتيرة تفوق المستوى الطبيعي بالنسبة للآخرين، فان كل ما ينتاب المبدع من ذلك العصاب أو ذلك التوجس الذهني يكون بعيدا عن منطقة إبداعه الثر وعلاقاته الإنسانية، فيكون ذلك الانتكاس العصابي وأعراضه المتعبة والمقلقة ثمنا أو ضريبة للدفق الإبداعي لديه.

الواقع المتردي والتفوق الحسّي
وقد يظهر ذلك الخلل أو الضغط النفسي عند المبدعين ولا سيما الشعراء منهم على شكل كآبة ولا سيما في أوقات الوقوع تحت طائلة الإهمال والعوز الاقتصادي الذي يلم بالكثير منهم ولا سيما في البلدان المتخلفة ودول العالم الثالث والدول التي يقودها ساسة جهلاء لا يقيمون للثقافة والإبداع أي وزن، فيقعون فريسة البؤس والحرمان والتهميش الذي يتضاعف لمرات عدة في مرارة إحساسه عما قد يكون عند غيرهم من الناس العاديين، وما يزيد الطين بلة ان المبدعين يضعون أنفسهم في موقع المنقذ للإنسانية والمبلغ الخارق عن هواجس الكون، فهو الفارس الممتطي صهوة الزمن حاملا حلم الناس للعبور به الى الضفة الأخرى حيث الخلاص والجمال وحقول السعادة.

رفض الواقع طريق لحل معضلاته
ان رفض الواقع وما هو عليه من ملامح قبح ونكوص إنساني وتخاذل القيم العليا وهوانها أمام موجة الجهل والفوضى وعناد الرذيلة وصلفها يضع المبدع في كل مجال من مجالات الإبداع الإنساني أمام تحدٍّ كبير وصراع تهابه الفرسان الشجعان التي لم تجبل على الاستعداد المتواصل للتحدي ولم تمنح القدرة على انتشال الحلول من مدارك الردى والخنوع والاستسلام، فيكون ملمح عدم التكيف مع الواقع نتاجا طبيعيا فضلا عن الغضب والانفعال فوق العادة متجاوزا أصوله ولياقته المعهودة والمعروفة، فيصبح الجنون رفيقا متفهما حانيا يرتبط عضويا بأحلام المبدع ورؤاه من كونهما صدقا خالصا لا يقبل الزيف والخديعة والنفاق .

سلب سلطة المعرفة
لم يعد خافيا اليوم ففي مشهد لعرض التوازنات بين عناصر المجتمع المادية والمثالية والمعرفية منها، نجد إزاء تعقد هذا المشهد وتداخل صلاحياته وتنازع قواه المؤثرة وتداخل الوهم والخفاء في نفاق عصري متفوق استطاع خلق أجناس بشرية لها القدرة الفائقة على التقمص والتسلق نحو مراكز السلطة والقرار وتبوّؤ منصات الإبداع وحيازة الأوسمة والجوائز نيابة عن المبدعين دون حياء وخشية وكأن الأمر امتداد طبيعي وولادة بيولوجية لشيء آخر بديل عن الإبداع، أو انه إبداع آخر مسخه العصر ووضعه حاكما وخليفة على رؤوس المبدعين ليقطف ثمارهم ويفخر بنتاجهم بعيدا عنهم، وليس من مشكلة سوى ان ندع هؤلاء المبدعين يموتون من دون احتضار طويل لنؤبنهم خير تأبين، ثم نجتر ما أنتجوا عبر وسائل تلك الماكنة العديمة الرأفة والإحساس، فأي اضطراب وأي منظر يتماثل أمام هؤلاء المبدعين وهم يقفون لا حول لهم ولا قوة أمام تلك القوة الفتاكة من الوصوليين والمتمنطقين والمتصدين بكل السبل إلا الإبداع وسبله الرفيعة.
وفي هذا الخضم من التنازع ينبري الكثير من الوهم والخداع ويتصدى محاصرا ومقصياً الإبداع وأهله منتزعا منهم منابرهم كاسرا أقلامهم، مصادرا دائرة الضوء لتصبح حكرا على تلك العصبة من المتذللين المتزلفين وهم يتقاسمون السلطة في احتفال بهيج، مما أودى بأهل الإبداع الى فقدانهم الثقة بأنفسهم وبكل مرجعية إبداعية يمكن ان تتبنى المشهد ادارة ورعاية، وهذه من دواعي تفاقم الأزمات النفسية في وقت فيه تتناسل الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والصحية والبيئية، مما يدفع المبدعين الى حالة من الاغتراب والقلق والغضب تظهر جلية في نتاجاتهم الأدبية والفنية.
وربما يرد تساؤل: هل هذا الجنون يستطيع أن يتنفس خارج معاناة المبدع .. هل هناك مخرج يفتر التوتر والقلق ويحدث نشوة الخلاص والرضا والأمان لديه؟
نعم قد يكون المتنفس والمخرج هو النتاج الإبداعي نفسه، فإحساس المبدع عند ولادة عمل ابداعي قد لا يستوعبه وصف أو كلمات محددة، فكتابة قصيدة أو رسم لوحة تبعث نشوة من الرضا والسعادة والراحة لدى المبدع تستحق تلك المعاناة ومحنة التشظي للم شتات الكون .

نشرت في الولاية العدد 88

مقالات ذات صله