قاعدة نفي العُسْرِ والحَرَج مفهومها و مشروعيتها وتطبيقاتها ومُعطياتها

akaed

مرتضى علي الحلي

إنَّ من أبرز ما امتاز به الإسلام عن غيره في منظومته التشريعية الحياتية للناس أجمعين هو السماحة والتلطُّف بالعباد ومراعاة جانب المُكنة والقدرة البشرية في نطاق التكليف والامتثال لذا لم نجد تشريعاً في الإسلام يوجب الحرج أو العسر أو المشقة على المُكلَّفين.

هذا ما جاء منسجماً ومُتفقاً تماماً مع ما يدركه العقل الإنساني في عدم معقوليّة التكليف بغير المقدور واستحالة صدور ذلك من المُشرِّع الإسلامي الحكيم لينحى الدين بسماحته ورحمته ويسره منحى عقلانيا وعقلائيا مقبولاً مُعبِّراً عن اعتداله ووسطيته العمليّة وإقامةً منه للحجة البالغة لله تعالى على خلقه وتعذيراً لهم في صورة تحرجَّهم في تطبيقات الشريعة العبادية والمعاملاتية حياتيا وإنَّ هذا التلطف ورفع الحرج والتأسيس لليسر إنما شُرِّع إكراماً وتشريفاً لنبينا محمد صلى اللهُ عليه وآله وسلّم وهو بحسب الظاهر القرآني يكون من خصائص الأمة المُسلمة قال اللهُ تعالى حكايةً عن هذه القاعدة الفقهيّة اللطفيّة
(لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) البقرة286.

مفهوم قاعدة نفي العسر والحرج:
تفيد هذه القاعدة مفهوماً تأسيسيا فقهياً يحكي عن أنَّ الله تعالى لم يُشرِّع أحكاماً حرجيّة وعسيرة تجعل المُكلّف غير قادر عرفاً على امتثالها تلطفاً منه تعالى وامتناناً وتسهيلاً على المُكلّفين كما هو الحال في وجوب الوضوء أو الغُسل للفعل العبادي المشروط بالطهارة فلو تعسَّر أو كان الامتثال لذلك صعباً بسبب بردٍ شديدٍ جداً مثلاً بحيث يتعذَّر على المُكلّف ذلك ويواجه حرجاً شديداً أو يقع في ضررٍ أكيد ففي مثل ذلك يرتفع وجوب الوضوء أو الغُسل تسهيلاً وتيسيراً على المكلف لينتقل بعدها إلى الطهارة الترابية بديلاً عن ذلك وتجدر الإشارة إلى أنَّ تحديد معنى الحرج والعُسرِ في إطلاقه يجب أن يكون منُطلِقاً من منحاه النوعي والعقلائي عند الناس بحيث يصدق عرفاً وعقلائياً أنَّ هذا حرج وذاك عسر لا أن ينطلق من بواعث نفسانية أو شخصية عند المُكلّف وإن كان المُكلَّف هو الفيصل في تحديد ما هو حرج أو عسيرٌ عليه وجداناً.

أدلّة مشروعية قاعدة نفي العسرِ والحرَج
1. إنَّ الأصلَ في مشروعية هذه القاعدة الفقهية هو النصوص القرآنية الشريفة صراحةً ودلالةً فقد ورد في القرآن الكريم من المُستندات القطعيَّة ما يؤسس لتلك القاعدة تشريعيا قال الله تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))(المائدة/6)
((لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))(التوبة/91)
((وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ))(الحج/78) إنَّ دلالة ومفاد هذه النصوص القرآنية الشريفة واضحة المعنى في رفع الأحكام الحرجيّة والعسيرة التطبيق مراعاة لطبيعة الناس وقدراتهم وأحوالهم الخاصة وشدّاً لهم قناعة وقبولا بهذا الدين الرحيم واليسير.

2. وأما السنّة الشريفة النبوية والإمامية عامةً فقد تناولت مشروعيّة هذه القاعدة تشريعاً في بياناتها التطبيقية ليتعاضد ذلك مع النص القرآني الشريف تأكيداً وتدليلا
فروي عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال ( أعطى الله أمتي وفضلهم به على سائر الأمم، أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلاَّ الأنبياء وذلك أن الله تعالى كان إذا بعث نبيا قال له: اجتهد في دينك ولا حرج عليك وإن الله تعالى أعطى أمتي ذلك حيث يقول: ( وما جعل عليكم في الدين من حرج يقول: من ضيق ): عوائد الأيام: المحقق النراقي:ص174:
وروى عبد الأعلى مولى آل سام قال قلت لأبي عبد الله الإمام جعفر الصادق عليه السلام: عثرتُ فانقطع ظفري، فجعلتُ على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء ؟
قال الإمام: يعرفُ هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل قال الله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) امسح عليه: على الإصبع.(الخلاف:الطوسي:ج1:ص160).

تطبيقات قاعدة نفي العسرِ والحرج ومعطياتها:
من الواضح أنَّ موارد تطبيق هذه القاعدة لا ينحصر في مورد ما لما في هذه القاعدة من إطلاق وشمول واستيعاب لما يمكن أن يندرج تحت مفهومها مصداقا فالمهم هو إدراك ومعرفة المُكلّف لمفهوم القاعدة وماهيتها الفقهية والعقلائية ليتمكن من تطبيقها في الموارد التي يراها توقعه في الحرج والمشقة والعسر ويتحدد فهم القاعدة في مفادها الفقهي بأنَّ الله تعالى لم يجعل في الدين والتشريع أحكاما حرجية وعسيرة التطبيق بل يصل الأمر حتى في الموضوعات فهي الأخرى قد رفعَ اللهُ تعالى ما فيها من حرج أو مشقة على المكلٌف تطبيقيا كما هو الحال في موضوع الجهاد وتطبيقه فهو وإن كان واجباً حكماً على المُكلّف القادر على الامتثال إلاّ أنه يسقط ويرتفع في تعذر المكلف تطبيقا وإمتثالا كما لو عَميَ أو مِرِضَ أو تعرَّضَ إلى إصابة كبيرة أقعدته عن القتال في ساحة الجهاد والفعل لما فيه ذلك من حرج وعسر شديد وهذا هو مفاد قوله تعالى ((لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً))(الفتح/17).
إنَّ الدين الإسلامي في شريعته سمحٌ ومتوازن ومرن ولطيف ولكن لا يقبل من المُكلّف أن يتحايل على المُشرّع الأعلى والحكيم ليقبل من الشريعة ما يوافق مزاجه ورغباته ويترك منها ما يصب في مصلحته وصلاحه وللعلم إنَّ مُعطى هذه القاعدة الفقهية ينبسط في أثره على مناحي الحياة كافة في كل محور فليس الأمر محصورا بالعبادات بل يشمل حتى المعاملات وغيرها من موارد التطبيقات كل ذلك لأجل أن يكون الإنسان المُكلَّف في حركة مرنة وسهلة ومعقولة في تطبيقاتها الحياتية بعيداً عن النفرة والتشدد العسير والذي قد ينتهي بنتيجة سلبية تجعل المُكلّف يفزع من التشريع لذا راعى المشِّرع الإسلامي الحكيم هذه الركيزة في كيانية الإنسان الضعيف قال تعالى ((الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصَّابِرِينَ))(الأنفال:66)

نشرت في الولاية العدد 91

مقالات ذات صله