من وحي نهج البلاغة في صفة الوالي الإسلامي

254789_9

طالب شبر

تحتل المسؤولية التي يتصدى فيها الإنسان لإدارة سياسة العباد فيما يخدم مصالحهم العامة والخاصة مكانة مهمة وموقعا جسيما، اذ تحتاج لمن يتصدى لها كفاءة ذهنية ونفسية عالية، حيث يتوقف على شخصيته نجاح السياسة او فشلها، باعتباره يمثل العقل المدبر والمحرك الأساسي لهذا الموقع الحيوي.
ان موقع الإنسان في المسؤولية يتطلب منه أن يكون ملمّا بمجموعة من الأمور، تأتي في اولولياتها الحكمة والفطنة، لان هذا الطريق فيه العديد من المكاره والمشاكل، وبخاصة انه يتعامل مع طبقة واسعة من الناس، كل منهم يحمل مزاجا مختلفا، وتوجها معينا، فالأمر يتطلب منه أن يدير كل هؤلاء ويحفظ كيانهم ويدفع عنهم المكاره.
ولا يتوقف الأمر في المنهاج الإسلامي في مجال سياسة العباد عند حفظ مصالح الناس الاقتصادية والعسكرية، بل يتعداه إلى أن يحمل الوالي الإسلامي الناس على الاستقامة على جادة الشريعة ويحثهم على الترقي والسلوك الأحسن، لذا فالمهمة في هذا المضمار مضاعفة ودقيقة.
وعليه فان الوالي يحتاج ــ مضافا إلى تقوى الله سبحانه والإخلاص له ــ إلى إلمام واسع بما هو خائض فيه من العمل، واختصاص في مضمار نشاطه، والأكثر معرفة بمتطلبات عمله أكثر من أي شخص آخر، أو يكون على الأقل خبيرا والأكثر كفاءة لأداء هذا التكليف أو ذاك، حتى يكون مرجعا أساسيا وركنا منيعا لحل أي مشكلة تتعلق بشؤون العباد، وحتى لا يبقى المرجع الأساس مفقودا يتأرجح بين هذا وذاك، ما يؤدي إلى الفوضى والعشواء.
ومن منطلق هذه الاهمية، ورد في كتاب نهج البلاغة لامير المؤمنين(عليه السلام) فقرات عديدة تخص هذا الجانب الحساس، ولعل العهد الذي كتبه عليه السلام لعامله مالك الاشتر لما ولّاه امارة مصر من افضل الامثلة التي نستفيد منها في هذا المقام، وسوف نتعرض الى مقاطع منها لاستنطاق وحيها في بيان صفات الوالي الاسلامي الحقة.
ان من أهم ما ينبغي أن يمتاز به الوالي، سعة صدره وحلمه وصبره، حتى يكون عادلا في حكمه وقراره، ويعطي لكل ذي حق حقه، فلا تميله ساعة غضب عن جادة الصواب، فيجور في الحكم، أو يستعجل في العقوبة، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في هذا المضمار قوله لعامله مالك الاشتر: (لا تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً) وقوله: (أَخِّرِ الشَّرَّ فَإِنَّكَ إِذَا شِئْتَ تَعَجَّلْتَهُ)، وقوله في موضع آخر من النهج: (آلَةُ الرِّيَاسَةِ سَعَةُ الصَّدْرِ)، وقال(عليه السلام): (امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ وَسَوْرَةَ حَدِّكَ وَسَطْوَةَ يَدِكَ وَغَرْبَ لِسَانِكَ وَاحْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ وَتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الِاخْتِيَارَ، وَلَنْ تَحْكُمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِكَ حَتَّى تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ الْمَعَادِ إِلَى رَبِّكَ).
كما أن الوالي بحاجة إلى أن يعطي لكل ذي حق حقه، فلا يتساوى عنده المثابر والخامل، والنشيط والمتكاسل، فان إعطاء كل ذي حق حقه يدعو إلى استزادة المحسن في إحسانه، وترك المسيء لإساءته، قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة: (لَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِي‏ءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِي الْإِحْسَانِ وَتَدْرِيباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ عَلَى الْإِسَاءَةِ، وَأَلْزِمْ كُلًّا مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ).
واحد الأعمدة التي تقوم عليها خصائص الوالي في نظر الإسلام: هو التواضع للناس كافة، فهذا الحصن النفسي الذي يتحلى به الإنسان، يجنبه الانزلاق في مهاوي التكبر والاعتلاء، والجفاف الروحي، وبخاصة أن موقع المسؤولية بطبيعته يفسح المجال واسعا لتسويلات الشيطان والنفس الإمارة بالسوء، لكي ينفخ في الإنسان روح العلو والخيلاء والترفع، قال(عليه السلام) في مقام الحث على تفقد حاجات الناس من قبل الوالي: (وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ وَ تُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه واله يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ).
ولعل من اهم مفردات السلوك الأخلاقي التي تنبغي للإنسان وهو في موقع الولاية: إنصاف الناس من نفسه فيما يحب ويكره، وهو ان يجري على نفسه ما يجري على اضعف الناس من رعيته، وقد ضرب الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) المثل الأروع في هذا المجال وهو القائل: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ) والقائل: (أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ).
على ان انصاف الناس من النفس يعد من اصعب الامور تطبيقا على واقع السلوك، فقد روي عن الامام أبي عبد الله(عليه السلام): (الا أحدثك بأشد ما فرض الله عز وجل على خلقه؟) قلت : بلى، قال: (انصاف الناس من نفسك، ومواساتك لأخيك، وذكر الله في كل موطن).
ومن الكلمات التي وردت عن امير المؤمنين في نهج البلاغة، والتي تفيد في هذا الموضوع ما كتبه عليه السلام الى عامله «ابن حنيف» حينما بلغه انه اجاب دعوة اناس اشراف الى مائدة طعام فاخرة، حيث اورد في كتابه ذلك العديد من الوصايا الاخلاقية التي ينبغي للوالي ان يتحلى بها وهو في موقعه ذلك.
واذا كانت تلك الشروط وامثالها لا بد من ان تتوفر لدى الانسان وهو في منصب الحكم، فمن الواضح أن المؤمن الحقيقي هو اولى الناس بالتصدي لهذا الموقع، باعتبار ان المؤمن يجمع كل الصفات النفسية التي تؤهله لهذا الامر الحيوي، وبخاصة سعة الصدر وحسن الخلق والانصاف من النفس.
ان الرقابة الالهية التي يشعر بها المؤمن في كل لحظة من لحظات حياته ــ انطلاقا من يقينه بالغيب ــ تجعله يسير دائما على الخط المستقيم، فيخلص في عمله ايما اخلاص، ويبذل من نفسه ما لا يتمكن غيره من بذله، واذا ما بدرت منه زلة او خطأ، اسرع لتدارك الامر قريبا، ومهما كانت الضغوط التي يتعرض لها الانسان وهو في موقع المسؤولية، يبقى المؤمن الحقيقي في مأمن من الانجراف وراء المصالح الشخصية او النزوات الذاتية او العزة بالإثم، بل يبذل التسامح والتودد، حتى لو كان الامر على حساب مصلحته الشخصية، قال تعالى في صفة المؤمنين: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(الحشر/9).

نشرت في الولاية العدد 92

مقالات ذات صله