مكتبة اسرة آل كاشف الغطاء

44444الاستاذ الدكتور حسن الحكيم

تعود جذور المكتبات النجفية إلى القرن الرابع الهجري، الموافق للقرن العاشر الميلادي، وقد تزامن هذا التاريخ مع بروز الحوزة العلمية في مدينة النجف الأشرف، قبيل مجيء مرجع الطائفة الأكبر الشيخ الطوسي إلى النجف الأشرف عام 448 هـ ، تخلصاً من بطش السلطة السلجوقية، واشارت المستشرقة (زيغريدهونكة) إلى الجذر التاريخي للمكتبة النجفية بقولها: (فمكتبة صغيرة في النجف في العراق كانت تحوي في القرن العاشر أربعين ألف مجلد، بينما لم تحو اديرة الغرب سوى اثني عشر كتاباً ربطت بسلاسل خشية ضياعها)(1).
تشيرهونكة بهذه المقارنة بين مكتبة النجف الأشرف، ومكتبات الاديرة في أوربا، إلى اتساع الحركة العلمية والوعي الفكري في النجف الأشرف، وتوسعت آفاق المعرفة عند استقرار الشيخ الطوسي في النجف الأشرف، حتى اصبحت المدرسة النجفية عالمية، فقد قصدها رواد المعرفة والعلم من بقاع العالم، وقد حافظت على الحوزة العلمية، وعلم آل البيت عليهم السلام حتى يومنا هذا، ومن اشعاعاتها تأسيس الأسر العلمية مكتبات وخزائن كتب في دور علمائها، وأسس آخرون مكتبات عامة، واخرى تجارية. وقد ضمت مكتبات الأسر العلمية مخطوطات نادرة ونفيسة وكان بعضها بخطوط مؤلفيها. واراد بعض الاعلام استمرارية مكتبة اسرته عن طريق كتابة (وثيقة الوقف) وبمحضر جماعة من الشهود. وقد حافظت هذه الوثائق على النوادر رغم المحن السياسية والأزمات الاجتماعية، والكوارث الطبيعية، وكان بعض النساخين والخطاطين يمتلكون قدرة فائقة على الكتابة، ومازالت بصماتهم ثابتة على صفحات الكتب الخطية.
مكتبة (أسرة آل كاشف الغطاء)
مكتبة (أسرة آل كاشف الغطاء) إحدى مكتبات النجف الأشرف الأسرية العريقة التي تعود إلى نهاية القرن الثاني عشر الهجري، الموافق للقرن الثامن عشر الميلادي، فان جذورها تعود إلى الإمام الشيخ جعفر الكبير(صاحب كتاب كشف الغطاء)، والمتوفى عام (1228هـ/1813م)، وبعد وفاته حافظ على المكتبة ابناء اسرته حتى آلت إلى الشيخ علي بن الشيخ محمد رضا آل كاشف الغطاء. المتوفى عام (1350 هـ / 1931م) ، صاحب كتاب (الحصون المنيعة في طبقات الشيعة)، ولشهرة هذا الكتاب في الاوساط العلمية، سمّيت المكتبة باسم (مكتبة صاحب الحصون المنيعة)، فانه قد اضاف للمكتبة عددا كبيرا من المخطوطات والمطبوعات، واصبحت أكبر المكتبات في مدينة النجف الأشرف، واضاف إليها ولده الإمام الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، المتوفى (عام 1373 هـ / 1954م) كتباً كثيرة، وبنى جناحاً في مدرسته العلمية للمكتبة، وقدّرت محتوياتها بعشرة آلاف كتاب(2).
ويقوم الشيخ شريف بن الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء برعاية المكتبة وتشييد اجنحة جديدة لها، والحفاظ على مخطوطاتها النادرة، ونفائسها الثمينة واشار إليها الاستاذ جعفر الخليلي بقوله: (انها انفردت بالكثير من الكتب العربية المفقودة، وضمّت مئات من الكتب النادرة التي بذل الشيخ علي آل كاشف الغطاء الشيء الكثير للحصول عليها، وكانت تعتبر المكتبة الأولى في الشرق من حيث جمعها للنادر والمفقود من الكتب)(3). وقدر الاستاذ كوركيس عواد مخطوطاتها بستة آلاف وست وستين مخطوطة(4). وكنت قد اطلعت على كثير من المخطوطات عند كتابتي لرسالتي الجامعية (الشيخ الطوسي أبو جعفر محمد بن الحسن) بين (1972 – 1974م) ، وأشار مناقشو الرسالة من الاساتذة إلى أهمية النصوص المستقاة من مخطوطات مكتبة آل كاشف الغطاء، ويقول الاستاذ جرجي زيدان: (ان مكتبة كاشف الغطاء حوت امهات الكتب، وبتسمية المصنفات في نفائس العلوم والفنون، وأكثرها مكتوب في العصور الخالية)(5). وكان بعض اعلام مدينة النجف الأشرف قد وقف على جهود العلامة الشيخ علي كاشف الغطاء العلمية، وقدرته الفائقة على النسخ فيقول العلامة الشيخ محمد رضا الشبيبي: (انه الرجل الذي لا يرى إلا مجدّاً في النسخ والتأليف وعاكفاً على المطالعة، او لهجاً بجمع الكتب وذكرها يقص عليك احاديثها، ويصف لك مضان وجودها، ويترجم لك صرعاها وجماعها، وقد كانت نفسه الكبيرة حملته على الرحلة فجاب بلاد الفرس وبلاد الترك وبلاد مصر وسوريا والحجاز، وقد اشترى من الاستانة وغيرها كتباً نفيسة مخطوطة ومطبوعة، وكان إذا حطّ رحله في بلد وجّه همه إلى زيارة معاهده العلمية، والوقوف على دور كتبه المهمة حتى انه اتقن اللغة التركية فشافه كبار الساسة والعلماء، ولم يبق في الاستانة بيتً من بيوت الكتب إلا زاره واستفاد منه، وإذا اعجبه كتاب لم يكبر عليه نسخه واكتتابه وان كبر كما فعل يوم كان في الاستانة فإنه استنسخ فيها لنفسه أسفاراً جمّة)(6).
أشارت المصادر إلى مجموعة من المخطوطات التي استنسخها، منها: (شرح أبي تمام على مهاجاة جرير والأخطل، ديوان مهيار الديلمي، ديوان كشاجم، الامالي لأبي علي القالي، نسمة السحر من تشيع وشعر، رسائل ابن العميد).
الشيخ علي كاشف الغطاء
بقي العلامة الشيخ علي آل كاشف الغطاء يستنسخ الكتب في مكتبته حتى اواخر حياته، وقد شوهد يستنسخ الكتب، وامامه طاولة صغيرة عليها كتاب مفتوح ومحبرة، وقد شدّ على عضده مساطر خفيفة من الخشب شداً محكماً يمنع الرعشة التي في يده لأنه شيخ وهنت قواه، وقد شارف على التسعين من عمره، وكان لابساً ثوباً سميكاً تراه مخططاً بالألوان من مسح القلم ورذاذه، وكان في يده قلم الخيزران القوي، وكان مشغولاً بالنسخ ولما سئل عن عمر ذلك الثوب، أجاب: (ان عمره يناهز السبعين عاماً، وهو عندي اطيب حق الغلالة)(7).
وان هذا الوصف الدقيق من العلامة الشيخ علي الشرقي تؤكده المصادر بصفته عاشق كتاب، وصاحب قلم، ومؤسس مكتبة، ولم يبال وهو في شيخوخته أو مرضه إلا اكمال مشروع كتابه (الحصون المنيعة في طبقات الشيعة)، ويقول الشيخ علي الشرقي: (واتفق ان ذهب إلى الجامع عند بزوغ الفجر، وصادف في طريقه احد الفضلاء ففاجئه بنبأ وفاة أحد المشاهير من حملة العلم والأدب وجعل يعزيه من سراة قوم الشيخ) وعند ذلك يسرع الشيخ علي كاشف الغطاء إلى داره ليكتب الخبر الذي سمعه وهو يقول: (لقد تزيّن كتاب الطبقات بخبر ترجمة) وعند ذلك يؤرّخ وفاة ذلك الشخص المتوفى، ويمضي الشيخ كاشف الغطاء في الكتابة رغم الكوارث الوبائية التي كانت تجتاح مدينة النجف الأشرف، ويقول الشيخ جعفر محبوبة: (انه نسخ كثيراً من الكتب التي لم تطبع في ذلك الوقت بيده والّف لها فهرساً جامعاً)(8). وكان في اثناء تجواله في الاقطار يستنسخ ما يعثر عليه من الكتب المخطوطة ، ولما وقفت على ما تضمه المكتبة من نفائس ونوادر ، وجدت بعضها يعود إلى القرن الخامس الهجري وما بعده، وبعضها بخطوط مؤلفيها ومن نفائسها كتاب (الشجر الوافي في الفقه والتاريخ والنحو والعروض والقوافي)، وكانت كل ورقة من هذا الكتاب تتألف من ثلاثة جداول فالجدول الاول يقرأ افقيا وهو في علم الفقه، والاسطر الأخرى في علمي التاريخ والنحو، وقد وصفت جريدة الثورة في عددها (7864) بتاريخ 23/ 2/ 1992م، هذا الكتاب بانه هندسة دقيقة تحمل عبقرية الفكر العربي.

الهوامش
1 – هونكة: شمس العرب تسطع على الغرب ص 386.
2- عبد الهادي الفضلي: دليل النجف الأشرف ص 82.
3- جعفر الخليلي: هكذا عرفتهم 1/ 228.
4- كوركيس عواد: فهارس المخطوطات في العراق . مجلة المعارف، العدد (2 – 3).
5- جرجي زيدان: تاريخ اداب اللغة العربية 4/ 128.
6- محمد رضا الشبيبي: صرعى الكتب، مجلة لغة العرب، ص 373 – 374.
7- علي الشرقي: الاحلام ص 59.
8- جعفر محبوبة: ماضي النجف وحاضرها 1/ 152 – 153.

مقالات ذات صله