بطلان دعوى النسخ بآيات القتل والقتال في القرآن الكريم

في-رحاب-القرآن

أ.م.د. عادل عباس النصراوي

أُشيع في كتب التراث الإسلامي أنّ الآيات التي تدعو لقتال مَن يمثل خطراً على الإسلام والمسلمين قد تحكّمت في رقاب كل من لا يؤمن بالإسلام ديناً بحجة أنّ هذه الآيات قد نسخت كلّ آية تدعو للسلم والمصالحة والموادعة, غير أنّ التدبّر فيها يُظهر خلاف هذا الادعاء, فالنظرة السطحية تُظهر دلالة عامة, إلّا أنّ التعمّق في فهم النص المبارك سيطلعنا على دلالات أعمق.

 لقد تعدّدت الآيات الناسخة لآيات السلم والمصالحة, فآية السيف لوحدها قد نسخت أكثر من (مئة وعشرين) آية منها, وهي قوله تعالى: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ….) (سورة التوبة / الآية 5) – بحسب ما ادّعاه بعضهم – بل تعدّى ذلك الى آيات أخرى, يُنبأ ظاهرها بإزالة حكم الموادعة وإشاعة حكم القتل برقاب مَنْ اختلف بالعقيدة أو الدين من نحو قوله تعالى (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (سورة البقرة / الآية 190), والظاهر من هذه الآية أنّ شرعية قتال غير المسلمين مرهونة بقتالهم للمسلمين, ثم أنّ الله تعالى قد نهى المسلمين عن قتالهم اعتداءً منهم, أي أنّه سبحانه قد حصر القتال بمن قاتل المسلمين ونهى عن الاعتداء.
وكذلك قوله تعالى (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (سورة البقرة / الآية 191), الذي أردف به الآية السابقة ليتمّ معناها إذ حدّد القتال فيها بالذين يعتدون على المسلمين بالقتال, ثم حرّم القتال عند المسجد الحرام.
ومنها أيضاً قوله سبحانه: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً) (سورة النساء / الآية 89), فالآية المباركة مخصوصة بالمنافقين لا بالمشركين أو الكافرين, وقد دلّ على ذلك ما جاء قبلها من قوله تعالى: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (سورة النساء / الآية 88), وهذا ممّا يُسقط القول بكونها ناسخةً لآيات الموادعة والمصالحة, فضلاً عن ذلك أنّه سبحانه اشترط لقتالهم انحرافهم وتوليتهم لأنّ انحراف مَن عليه صبغة الدين وهو يضمر خلافهُ سيكون أذاه كبيراً على المسلمين عموماً.
ثم آية السيف التي عُدّت بأنّها ناسخة لمئة وأربع عشرة آية ثم صار آخرها ناسخاً لأوّلها (ظ: البرهان/ الزركشي: 2 /28) وهو قوله (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (سورة التوبة / الآية 5), ولم نعلم أنّ الرسول ” صلّى الله عليه وآله وسلّم ” قد حكَّمَ هذه الآية في رقبة مشرك لشركه بل كان حكمها مخصوصاً بمن نقض العهود والمواثيق معه وقتلوا حلفاءه من خزاعة.
وكذلك قوله سبحانه (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (سورة التوبة / الآية 36), الذي فيه أمر بقتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين, أي أنّ بناءَ أمر القتال مشروطٌ بقتال المشركين لهم, وإذا كان خلاف ذلك فيُعدُّ اعتداءً وهو مما نهى الله عنه, أمّا قوله تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (سورة التوبة / الآية), فيتعلّق بما سلف من أمر آية السيف ومخصوص بالمشركين الذين نقضوا العهد مع الرسول ” صلى الله عليه وآله ” وحلفائه حين قتلوا حلفاءه من خزاعة, وليس لعموم المشركين لكونهم لا يؤمنون بالله تعالى.
أمّا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (سورة التوبة / الآية 123), فهو متعلق بآية السيف وأحداثها التي خصّت مجموعة من أولئك المشركين المعتدين على حلفاء النبي ” صلّى الله عليه وآله وسلّم “, وأنّ سبب النزول ليوضح ذلك (ظ: مجمع البيان/ الطبرسي: م3 / 83), فضلاً عن ذلك نجد أنّ في الآية تحديد السبيل لكيفية القتال, وليس أمراً بالقتال, إذ أوعز الله تعالى للمسلمين بقتال الأقرب لهم من الكفار ثم الأقرب, وهذا نوع من تكتيك يتبعه القادة لقتال أعدائهم, إذ في البدء يعملوا على فكّ حصون الأعداء القريبة لهم فيقضموا الأرض شيئاً فشيئاً, فلا نلمس في الآية أمراً بقتال, وإنّما هو توضيح لطريقة قتال الأعداء, وقد اتبعت بعض الحركات السلفية في عصرنا الحالي تفسيراً منحرفاً لهذه الآية بمقاتلة من يختلف معهم بالرأي من باقي المذاهب الإسلامية بوصفهم ممّا يلونهم فحقّ عليهم مقاتلتهم.
إذن, نستنشف من هذه الآيات وغيرها التي تحمل المضامين ذاتها عند فحص معانيها وتدبّرها لم نجدها داعية الى قتال المشركين أو المنافقين لمجرد شركهم أو كفرهم وإنّما هناك سبب آخر من نحو سلب حقوقهم أو قتل أهليهم أو الاعتداء عليهم أو إخراجهم من ديارهم من غير حق, أو أنّ هذه الآيات تدعو الى طريقة القتال وأخذ الحيطة والحذر لأجل سلامة حياة المسلمين وحفظهم, بمعنى أن يكون هناك تخطيط للقتال وتهيئة.
هذا الاستنتاج يدعونا الى الوقوف بحذرٍ شديدٍ اتجاه أقوال نسخ آيات الموادعة وضرورة تدبّر معاني الآيات الناسخة والمنسوخة من خلال لغة النصّ المبارك وآليات اللغة وفنونها من نحوٍ ودلالة وصرف وبلاغة وغيرها, وكذلك من خلال أسباب النزول والرواية الصحيحة عن النبي محمد ” صلّى الله عليه وآله وسلّم ” والأئمة الأطهار (عليهم السلام) والصحابة الأجلاء (رضوان الله عليهم), وكذلك ضرورة مراعاة طريقة الاستدلال وشروطها للوصول الى الحقيقة الكامنة في هذه النصوص المباركة.

نشرت في الولاية العدد 96

مقالات ذات صله