مواقف في النقد والأدب

_07f8642

د. عباس علي الفحام

سئل الإمام علي عليه السلام : من أشعر الشعراء ؟ فقال : إن القوم لم يجروا في حلبة تعرف الغاية عند قصبتها، فإن كان ولابد فالملك الضليل( يريد امرأ القيس ).. ويعني بالحلبة القطعة من الخيل تجتمع للسباق وقد عبر بها الإمام(ع) عن الطريقة الواحدة، أما القصبة فهي ما ينصبه المتبارون للسباق حتى اذا سبق سابق أخذه ليعلم انه السابق بلا نزاع، وكانوا يجعلون هذا من قصب. ذلك هو المعنى الحرفي للمفردات.

بهذا المدخل وددت الحديث عن الفكرة التجزيئية التي لاحقت الذهنية العربية وأثرت في مسيرة نقدها الأدبي، فمن المعلوم في الموروث الأدبي أنه تكثر عبارات في كتب النقد والأدب القديمة مثل: هذا أشعر بيت قالته العرب، وهذا أهجى بيت أو هذا أمدح بيت…. وهي كلها تنبع من النظر الجزئي الذي يقتطع من التجربة الكلية فكرة استحسنها لإلباسها قائلها ألفاظا رشيقة معبرة أو موجزة أدت المعنى كاملا.

أحكام النقدية
تذكر كتب التاريخ الأدبي ما ينسب الى النابغة الذبياني مثل هذه الأحكام النقدية المرتجلة القائمة على التذوق الفني الشخصي والإحساس المرهف كما في تحكيمه بين حسان بن ثابت والخنساء وتفضيله الأخيرة على حسان الأمر الذي أغضب حسانا. على اية حال لم يبن السبب في المقاييس العامة التي يتفاضل بها الشعراء لأنه ببساطة لم تكن ثمة أصول مقررة للكلام الجيد أو بعبارة ثانية لم يمتلك العرب بعد نظرية متكاملة للنقد الأدبي يقاس بمقتضاها جودة هذا الشاعر من ذاك، فما الذي كان رائعا في قصيدة الخنساء:
قذى بعينيك أم بالعين عوار
أم أقفرت مذ خلت من أهلها الدار
حتى قرر النابغة تفضيلها على قصيدة حسان:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما ؟
وما الذي تضمنت قصيدة حسان من معان في أبناء جفنة:
لله در عصابة نادمتهم
يوما بجلق في الزمان الأول
حتى يعبر عنها أنها البتارة التي بترت كل المدائح؟

ذوق فطري
كل ذلك لا يجاب عنه الا بذوق فطري ينبع من الاستحسان الفردي القائم على الانطباع والأثر في النفس، أما أن يكون فكرا ينبعث عنه التحليل والاستنباط فذلك شيء غير موجود بعد عند العرب القدامى ممن يحتكم اليه في أفضلية هذا العمل الأدبي من ذاك .
وأنقل مثل هذه النظرات النقدية ما ذكر في كتب التاريخ النقدي انه اجتمع رهط من شعراء تميم في مجلس وهم: الزبرقان بن بدر والمخبل السعدي وعبدة بن الطبيب وعمرو ابن الأهتم اجتمعوا قبل أن يسلموا وتذاكروا أشعارهم متفاخرين وتحاكموا الى أول طالع عليهم فكان ربيعة بن حذار الأسدي وقيل غيره فقالوا له: أخبرنا أينا أشعر؟ فقال: أما عمرو فشعره برود يمنية تطوى وتنشر، وأما أنت يازبرقان فكأنك رجل أتى جزورا قد نحرت، فأخذ من أطايبها وخلطه بغير ذلك. أو قال له: شعرك كلحم لم ينضج فيؤكل، و لا ترك نيئا فينتفع به. وأما أنت يا مخبل فشعرك شهب من الله يلقيها على من يشاء من عباده، وأما أنت يا عبدة فشعرك كمزادة أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء.
ولا زيادة في التعليق على هذا سوى التأكيد بأن النظر الى الفن الشعري وقتذاك كان قائما على مدى تأثر النفس به. ولذلك أسباب كثيرة ربما كان أبينها الشفوية وقيام نظام الشعر العربي على اساس استقلالية البيت الواحد في الموسيقى العروضية والفكرة.

الدقة في المقياس
لذلك كان الإمام(ع) رائدا في مخالفته للثقافة التجزيئية في عدم ربط الجزء بالكل وتوخي الدقة في مقياس الأفضلية بين الأعمال الأدبية فعلى الأقل ينبغي إقامة فرص متساوية في السباق الشعري من الغرض الواحد والروي الواحد ، فهو يعني أن كلام الشعراء لم يكن في مقصد واحد بل ذهب بعضهم مذهب الترغيب وآخر مذهب الترهيب وثالث مذهب الغزل والتشبيب. لكل ذلك فالحكم لن يكون نابعا من فكر تحليلي كامل بل سيغدو مبتسرا مقتطعا كما مر .
ولكن الإمام(ع) وتساوقا مع الثقافة السائدة لم يعدمهم رأيه فبمقتضى الحكم الذوقي الشائع وقتذاك فضل الملك الضليل وهو امرؤ القيس وهو الأمر الذي أكده النقاد القدامى نظرا لريادة امريء القيس في تقصيد القصيد والوقوف على الأطلال واستيقاف الصحب فكلها من مبتكرات هذا الملك الضليل، وإنما عبر عنه بالضلالة لأنه كان شاعرا خارج عن أعراف الخلق الاجتماعي في تشبيبه وتغزله.

نشرت في الولاية العدد 96

مقالات ذات صله