اللغة في الكائن المبدع والنقد

عذراء عبد الجبار

ان نفي اللغة عن المجتمع وحراكه التاريخي على عدّها كائناً اسطورياً يلد الفن الكلامي كما تولد العنقاء من الرماد، أو كما تصنع الأشياء من موادها الأولية الخام، ضاربين عرض الحائط انها انما هي كائن ينبثق من شغاف المجتمع وروحه وكل جوارحه عبر تاريخ فهمه وادراكه ووعيه ووسائل تعبيره وطرقها عبر مراحل من التفاعل والتغيير والمحاكاة والحذف على تراث جاء به الزمن المنصرم بكل ما في التجربة الإنسانية لتلك الحقب الغابرة، يعد فهما قاصرا مجتزء من حقيقة هذا الاشتغال على الأدب، كونه النتاج الكلامي الأسمى والاجمل والاكثر تعبيرا عن الوجدان والقضايا التي تنشغل بها الانسانية وعلى كل المستويات فضلا عن انفعالاتها ومشاعرها الجياشة الظاهرة والباطنة.

الكيميائية والخلق المبدع
فالعملية لا تعدو دمج أو تفاعل مكونات لينتج شيئا مغايرا تماما عن المواد الأولية كتفاعل كيماوي، فلا اللغة وحدها كانت من اوصلت النتاج الى ما وصل الينا أو باقي المكونات الحسية والمادية خلاصة الماضي والحاضر والرؤية الى ما يشبه رسم للمستقبل واقعيا أو متخيلا، تدخل في روح ومعنى تلك اللغة وما تشع به من نفوذية في مخيال المتلقي.
أما ما تريد منه نظرية الأدب والفن بأن تجعل من نفسها محورا كليا للخلق والابداع فهذا ما لا يمكن الركون اليه ولا التعويل بصورة مطلقة عليه، لأن ما قطع ليس سوى واجهة أو جزء من طريق طويل يمتد من الماضي الى الواقع والمستقبل بكل أبعادها المرئية وغير المرئية وفي كل الاتجاهات والأبعاد، فلا تلغي النظرية الموضوعة على طاولة البحث، دائرة البحث والاستقصاء والفهم مما يوجب الإطلاع الى كل النظريات والأفكار في هذا الإتجاه وغيره لكي يتسع أفق الرؤية للباحثين والدارسين والمعنيين، دون إغفال ان العمل الأدبي والفني وليد كل ما يحمل الزمان والمكان من وجود مادي وحسي عبر تاريخهما وما يستشرفه مستقبل هذا الزمكان الإنساني في وجوده.

الوريث حامل الزمكان
والعمل الأدبي ليس كلاماً فحسب، وليس شعوراً تجسد في كلمات، انه خلاصة دنيا بكاملها، وخلاصة حياة تشمل الماضي والحاضر وكل ما فيهما من توق إلى المستقبل وقد تجسدا في كلام فصار الكلام لهما جسداً حياً، يوجعه تجريحه ويضيره، بل يقتله تشريحه. وقد تكون اللغة هي دم العمل المكتوب، لكن الدم ليس الجسد بكامله، وقد تكون الفكرة هي روح الأدب، إن كان له روح، لكنها ليست كله.. والعمل الفني ليس كما يزعم الزاعمون فوق المكان والزمان بل هو ابنهما الذي أنجباه ليورثاه كل ثروتهما وكل سماتهما، وليؤثرا فيه ويتأثرا به.. ولعل أجمل ما في العمل الفني هو أن يحمل السمات الجوهرية لزمانه ومكانه.

الدراسة البنيوية للنص
تدعو المدارس النقدية الحديثة جاهدة الى دراسة النص بنيوياً معتبرة هذا النهج على انه الوسيلة الأفضل والأشمل لتحليل النص والحكم عليه، دون ايجاد ما يبرر افضلية اتخاذ هذا المنهج لفهم النص وتحليله، وقد لا يكون عدم فهمنا عيبة فينا هنا ونحن نضع انفسنا في هذا الاطار الضيق غير المرئي بعدما نقع في معضلة انا المستهدفون في هذا التحليل والفهم، فأهل الأدب والفن هم البيئة والمحيط الذي يستفيد من توافر هذا الفهم والتحليل والقراءة للاطلاع على النتائج المرجوة من النقد وآرائه التحليلية، الذي وعلى ما يبدو أصبحنا نلاحقه دون فهم دقيق وهو آخذ بالتفرع والانقسام الى مدارس ومذاهب، فواحدة تبنت النقد التاريخي والأساطير، وأخرى تبنت التحليل النفسي، واخرى مدرسة النقد الشكلي والبنيوي، ومدرسة للنقد البراغماتي ( الوظيفي )، وخامسة مدرسة النقد الظاهراتي والوجودي، ومدرسة النقد الاجتماعي والماركسي، ومدرسة النقد الثيمي، وغيرها من مدارس النقد .. هذا التشتت والتفرع لربما يكون قد أفادنا في تعدد الزوايا التي أصبح من الممكن النظر من خلالها الى النتاج الفني والأدبي دون التموضع في زاوية واحدة معينة، والغاء الزوايا الأخرى التي قد تعطي الناظر والباحث مشهدا لا يضاهى ابداعا وحضورا، فتكون كل تلك الزوايا مشهدا كليا يضاف بعضه للبعض الآخر، دون نفي أو إقصاء، فوضع الأسماء أو الأفعال والضمائر وتصنيفها ـ مثلا ـ كما يفعل متخصصو علم الإحصاء في بحوثهم، على انها طرائق للتحليل والفهم وأطر لتفكيك النص، أمر يحتاج الى الكثير من المراجعة والنظر، ليكون مذهبا أو نظرية أدبية تطرح نفسها كبديل عمن غيرها من النظريات والمدارس.

السمات الجمالية والنشاط الفكري
فالتغيرات التي تعرضت لها مفاهيم النقد الادبي خلال القرن العشرين ولا سيما في نظرته الى السمات الجمالية للنص كثيمة أساسية وهدفا مرتكزا في تقصي الناقد والبحث فيما يخص وظائف النقد وأساليبه وأهدافه. فبعد ان كان النقد في المفهوم الكلاسيكي ينظر الى الأثر الادبي بحد ذاته , أي باعتباره موضوعا مكتفيا بذاته , ومتخذا مكانه الخاص, برز المفهوم الحديث للنقد وفيه لم يعد الأثر الأدبي موضوعا طبيعيا يتميز عن الموضوعات الاخرى بالسمات الجمالية فحسب, بل صار يعدُّ نشاطا فكريا عبَّر بواسطته شخص معين عن نفسه، أي باختصار فان هدف النقد تحوّل عن الموضوع نفسه, الى كل ما يحيط الموضوع, مع التركيز على تفاصيل مثل ظروف العمل الادبي, السيرة الذاتية للمؤلف والحس الشعري المتضمن في ذلك العمل الادبي.

التعبير عن روح العصر
لقد ظهرت مدارس عديدة لدراسة النتاج الأدبي او الفني تعتمد على الأسس الفلسفية الحديثة, غير تلك الاسس الفلسفية القديمة التي أرساها ( ديكارت وكانت وهيجل وهايدجر ) بل مدارس حديثة هي أساس مناهج النقد الحديث. وفي أدبنا الحديث معالم ومدارس تجد فيها الأصالة والاتباع إلى جانب التجديد المتأثر بما لدى الغرب من مذاهب، فقد قبسنا في العصر الحديث كثيراً من إشعاعات الآداب الغربية في جملة ما قبسنا من الأشكال الحضارية والثقافية والعلميّة، واطلع أدباؤنا ومفكرونا على الآداب الغربية، ومذاهبها وما كتب فيها من الدراسات بطريق الاتصال المباشر أو الترجمة والتأليف، وما تزال تدرّس في جامعاتنا ومعاهدنا ومدارسنا المدارس الأدبية الغربيّة ونوالي فيها التأليف والترجمة لتكون لنا عوناً في تفقه الآداب وضَوْءً يكشف كثيراً من خصائص أدبنا الحديث والمعاصر والتيارات التي تجري ضمنه وتعمل فيه. فمما لا شك فيه أنا تأثرنا بالآداب الغربية تأثراً كبيراً دون إغفالنا معطياتِ الأصالة التراثيّة المستمرّة.
وكل ذلك تعبير عن روح العصر الجديد المتميز بالحريّة والقلق والاضطراب وعدم الاستقرار والبحث الدائم عن الجديد الشديد الجذب والتأثير لِملْءِ الخواء الوجداني لدى المتلقين وإرضاء حاجات التطلع والتساؤل الحائر في عالمٍ انتقل فيه الإنسان من الوقوف على صخرة الواقع الراسخة في الزمان والمكان إلى الانطلاق والمشي في الفضاء في عالم منعدم الجاذبية تختل فيه المقاييس والمعايير.
فلم يبق بعد الحرب الثانية مذاهب أدبيّة واضحة المعالم وشاملة ومرتكزة إلى فلسفة أو نظرة إلى الحياة كما عهدنا في المذاهب الأدبيّة الكبرى، بل بقيت شذرات من المذاهب القديمة متمازجة مع مذاهب واتجاهات صغيرة نشأت بسرعة وتزامنت وانطفأت بسرعة موسومةٍ بروح العصر المتأزّم الداعي إلى الحرية والبحث والتجريب والتجديد على إيقاع سريعٍ عنيف شمل كل الآداب والفنون وجميع نواحي الحياة.

نشرت في الولاية العدد 97

مقالات ذات صله