بلاغة الرسول صلى الله عليه واله في أدعيته

أ.م.د خليل خلف بشير

لا يختلف اثنان على أن سيد الكائنات الرسول محمدJ أفصح العرب بدليل قولهJ: (( أنا أفصح من نطق بالضاد، بيد أني من قريش))،وهذا يعني أنّ فصاحته التي تفرّد بها مشابهة للعلم اللدني الذي ألهمه الله له، لذا فكلامه يتميز بالفصاحة والبلاغة سواء أكان تعبيره علمياً أم فنياً، أم علمياً فنياً، والأخير هو الغالب ؛لأنّ هدف النصوص الشرعية إيصال مبادئ الله تعالى إلى الآخرين فلا مجال لصياغة الكلام بشكل فني أو علمي لذا ترى الأسلوب متغيراً فتارة علمي وثانية فني وثالثة يجمع بين العلم والفن، ولا عجب في ذلك فألفاظه يعمرها قلب متصل بجلال الخالق، ويصقلها لسان نزل عليه القرآن بحقائقه فهو لا يتكلف القول ولا يقصد إلى تزيينه وتزويقه، ولا يجاوز به مقدار الإبلاغ في المعنى الذي يريده ثم لا يعرض له في ذلك سقط ولا استكراه، وما هذه الفصاحة إلا توفيق من الله الذي أرسله للعرب، وهم يقادون من ألسنتهم، ولهم المقامات المشهورة في الفصاحة والبيان مع تفاوت طبقاتهم في اللغات والمواطن فمنهم الفصيح والأفصح، ومنهم الجافي والمضطرب، ومنهم الخالص وغير الخالص في منطقه، وكان يعلم ذلك على حقه فيخاطب كل قوم بلحنهم وعلى مذهبهم ثم لا يكون إلا أفصحهم خطاباً، وأسدهم لفظاً، وأبينهم عبارة، ولم يُعرف ذلك لغيره من العرب، ولو عرف لكانوا نقلوه وتحدثوا به واستفاض فيهم.

البلاغة من دلائل النبوة
تعد بلاغة النبيJ من أبرز مظاهر عظمته، وأجلى دلائل نبوته، فهو صاحب اللسان المبين والمنطق المستقيم، والحكمة البالغة والكلمة الصادقة، والمعجزة الخالدة. وقد زكاه تعالى في نطقه فقال عز وجل: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى- النجم3-4) وقال سبحانه 🙁 نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء193-195)، وقالJ عن نفسه: (وأوتيت جوامع الكلم)،كما قال : (أنا أفصح العرب بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد)، ولم يكن هذا افتخارا منهJ، وإنما كان تقريرا لحقيقة ثابتة، وكيف لا يكون أفصح العرب وهو خاتم النبيين وسيد المرسلين، وعلى قلبه نزل القرآن العظيم، وقد رباه رب العالمين، ونشأ وترعرع بين عرب فصحاء معربين. قال في بلاغته وفصاحته القاضي عياض: (وأمـا فصاحة اللســـــــــان وبلاغة القـــــول فقد كانJ من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل سلاسة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتى جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب فكان يخاطب كل أمة منها بلسانها ويحاورها بلغتها ويباريها في منزع بلاغتها حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله (وهو في ذلك كله مسدد اللفظ جزل التركيب فخم الجملة واضح الصلة بين اللفظ ومعناه فلا ترى فيه حرفاً مضطرباً، ولا لفظة مستدعاة لمعناها أو مستكرهة عليه فضلاً عن كونه بيّن الجملة، ظاهر الحدود، جيد الرصف، متمكن المعنى، بديع الإشارة، غريب اللمحة، البيان، ليس فيه إحالة ولا استكراه، ولا اضطراب ولا خطل، ولا ضعف في وجه من الوجوه.

المسحة الالهية النبوية العبق
ويمثل الدعاء جانباً مهماً من التعبير اللغوي أغفل بعض الدارسين بلاغته بالرغم من كونه نثراً فنياً رائعاً، وأسلوباً ناصعاً من أجناس الكلام المنثور، ونمطاً بديعاً من أفانين التعبير، وطريقة بارعة من أنواع البيان، ومسلك معجب من فنون الكلام، والحق أن ذلك النهج العبقري المعجز، من بدائع بلاغات النبيJ وأهل البيت (عليهم السلام) أدب جميل، وحديث مبارك، ولغة غنية ودين قيم، وبلاغة عبقرية المجاز، إلهية المسحة، نبوية العبقة، وهو يمثل واحدا من أرفع أساليب الأداء العربي في بلاغته الناصعة، وتعبيره العذب، وهو من أوقع الكلام في الكشف عن مكامن الضمير، ومرادات النفس ومتطلبات الروح، مع تطوره وإبداعه في استخدام أساليب الاستدعاء والرجاء والعتاب والاعتذار وفي أطوار المرونة والعنف، والعجلة والصبر، واليسر والعسر، والاضطرار والرخاء.
لقد كان النبيJ في لحظات دعائه إنساناً مملوءً بعواطف ومشاعر جمة فتراه ينفعل لغضب حبيب أو سخطه في لحظات بشرية ينسى قلبه ومشاعره إذ يقولJ: ((سألت الله أن لا يستجيب دعاء حبيب على حبيبه)).

الدعاء وبلاغة الفصل والوصل
كان النبى محمدJ كثير الدعاء لله تعالى، ولما كان هو الذى لا ينطق عن الهوى فقد بلغ من الفصاحة والبيان مالا يبلغه أحد من قبله ولن يصل إليه أحد بعده، وجاءت المفردات في الدعاء النبوي مطابقة لدلالة الحال والمقام فتارة نجد بينها فصل وأحيانا نلاحظ أن بينها وصل ولكل بلاغته ففي دعائه عشية عرفة يقول ((اللهم أنك ترى مكاني وتسمع كلامي وتعلم سري وعلانيتي لا يخفى عليك شئ من أمري أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير من خضعت لك رقبته وذل جسده ورغم أنفه)) فـ (البائس، والفقير، والمستغيث، والمستجير، والوجل، والمشفق، والمقر، والمعترف بذنبه ) ثمانية أخبار لمبتدأ واحد هو ضمير المتكلم ( أنا) ولم تعطف هذه الأخبار على بعضها وذلك ليناسب المقام وهو أن الداعى يريد أن يشير إلى أنه الجامع لهذه الخصال وأنها مجتمعة فيه وكأنها صفة واحدة، ولا شك أن ترك العطف أليق وأنسب لحال الداعي واجتهاده في التذلل والمسكنة ونجد أن ترك العطف بين هذه الصفات ناسب تعريفها بـ (ال) من دلالة على القصر وكأن لا بائس ولا فقير ولا مشفق ولا مقر ولا معترف بذنبه سوى الداعي، وكأنما أجناس هذه المعاني مجسدة فيه.

دلالة الواو على المغايرة والاستقلال
وفي دعائهJ عقب صلاة الفجر نجده يوصل إذ يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين، وغلبة الرجال، وبوار الأيم والغفلة والذلة والقسوة والعيلة والمسكنة،…)) ففي هذا الدعاء وصلت الواو العاطفة بين الألفاظ الثمانية (الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن وضلع الدين، وغلبة الرجال)؛ لأن الواو تدل على المغايرة والاستقلال فجاء بها النبى لتناسب المقام وهو أن كل صفة من هذه الصفات يحتاج الإنسان أن يتعوذ منها كل على حدة وهذا يتحقق بدخول الواو بين هذه الألفاظ كما أن الواو دلت على أن هذه الألفاظ متغايرة وإن كانت متقاربة المعاني: فالهم والحزن قريبان ولكن الواو أوهمت أنهما متغايران وكذا بقية الألفاظ الأخرى ولهذه الواو مغزى بالغ اللطف والإثارة لأن الأصل فيها أنها تقتضى المغايرة والمناسبة ومقتضى المغايرة ألا تدخل بين الشيء ونفسه وإذا فعلت ذلك أوهمت أنهما متغايران، وإذا نظرنا ودققنا النظر في ألفاظ الدعاء نجد أنه: جمع بين ألفاظ متناسبة ومتقاربة إلا أن بينهما تغاير فـ (الهمّ والحزن) مع تقارب معناهما إلا أنه بينهما فرق واختلاف فالحزن يكون على أمر قد وقع، والهم إنما هو فيما يتوقع ولم يكن بعد ولما كان المصطفى أبلغ البلغاء فهو قد جاء بواو التغاير بينهما ليدلل على أنه لا يتعوذ من أمر واحد بل يتعوذ من الأمرين وهنا نقطة بلاغية أخرى وهو لماذا قدم النبيJ التعوذ من الحزن؟ وذلك مراعاة لما هو مركوز في طبائع الإنسان من الانشغال بالمستقبل وتقليب الفكر وشغل الخاطر بما يتوقع من الأحداث وما يرتقب من المكاره والمخاوف ثم نرى (العجز والكسل) يتقاربان فى المعنى إلا أن بينهما تباين لا يدركه إلا العالمون وهو أن العجز: القصور عن فعل الشيء والكسل التثاقل عن الشيء مع وجود القدرة والداعية والعجز كما لا يخفى على أحد انه أخطر وأشد من الكسل لذا قدمه النبي محمدJ والجبن والبخل متناسبان لأن الجود إما بالنفس وهو الشجاعة ومقابلة الجبن وقد يكون بالمال ويقابله البخل وعدم الجود بالنفس أشد وأعظم من عظم الجود بالمال لذا قدم النبي الجبن على البخل. ولعل بلاغة الوصل لا تتحقق إلا بالواو العاطفة دون بقية حروف العطف؛ لأنّ الواو هي الأداة التي تخفى الحاجة إليها، ويحتاج العطف بها إلى لطف الفهم، ودقة في الإدراك، ولأنّ الواو يقع فيها الاشتباه دون سائر حروف العطف فهي لمطلق الجمع ولتشريك ما بعدها لما قبلها في إعرابه فيحتاج العطف معنى جامعاً بين المتعاطفين ليصحح العطف، وهذا ما يحرص البليغ على إدراكه وتعرفه فبقية حروف العطف يفيد العطف بها مع الإشراك معاني أخرى كالترتيب المتصل في الفاء، والترتيب المنفصل في (ثمّ)، والتخيير مع الإباحة في (أو).

نشرت في الولاية العدد 99

مقالات ذات صله