نصوص من قضاء الإمام علي «عليه السلام» ودلالاتها

د. خليل ابراهيم المشايخي

يعد النظام القضائي من اركان الإدارة الاجتماعية التي تحمّل مسؤوليتها الإمام علي عليه السلام، فقد استطاع عليه السلام ان يؤسس لقاعدة صلبة للدولة الإسلامية الشرعية، فقد اعطى عليه السلام فكرة للقضاء دفعة روحية قوية إذْ اشرف على القضاء بنفسه ووضع لمن يتولى دفة القضاء كل مستلزمات القضية القضائية ووضع اخلاقيات الشهادة والشهود.

كما وضع عليه السلام صفات القاضي، منها ما نستقرئه من عهده عليه السلام الى مالك الأشتر، قال عليه السلام: (ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ وَ لَا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ وَ لَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ وَ لَا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْ‏ءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ وَ لَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَعٍ وَ لَا يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ وَ أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وَ آخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ وَ أَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ وَ أَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الْأُمُورِ وَ أَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ مِمَّنْ لَا يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ وَ لَا يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ وَ أُولَئِكَ قَلِيلٌ ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ وَ افْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ وَ تَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ وَ أَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لَا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ)(نهج البلاغة، كتاب 53 ص556)
وفي هذا النص الذي اوردناه دلالات مهمة منها:

أ‌. صفات القاضي:
1. يجب ان يُعيّن القاضي من قبل الوالي لا ان يقوم الناس بانتخابه لأن التعيين يخضع لضوابط علمية مثل كفاءة القاضي وعلميته ونزاهته، فإذا حصل تعيينه عن طريق الانتخاب فلا يكون اختياره لعلميته او كفاءته ونزاهته وانما يخضع لاعتبارات كثيرة لا علاقة لها بذلك.
2. يجب ان يكون القاضي من افضل الرعية وان يكون واسع الصدر متجنبا الزلل معترفا بالخطأ ان وجد، ميالاً الى الحق دائما سريع البديهة، دقيق التأمل في الشبهات يبحث عن الحجة والدليل غير طامع بما في ايدي الناس، صبورا لا يهزه الذم ولا يطربه المدح.
3. يجب ان يخصص للقاضي راتب معقول كيلا يحتاج الى الناس بحيث يكون مستقلا في أموره المالية.

ب‌. اشراف الإمام عليه السلام على فعاليات القاضي:
لقد اشرف الإمام عليه السلام على فعاليات القاضي شريح اشرافا مباشرا فكان عليه السلام يعترض عليه اذا استدعى الموقف اعتراضا، ويرفض حكمه اذا كان فاقدا للبينات او غير مستوعب للحقائق القضائية، وفي ذلك نورد بعض من الروايات منها:
1. لما جعل الإمام عليه السلام شريحا قاضيا اشترط عليه ان لا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه(تهذيب الأحكام: 6/27).
2. ممارسة حكم الاستئناف واستئناف الحكم، ولنا في رواية الشاب الذي اشتكى على اصحاب والده المقتول فرد شريح دعوته فاستأنفها الإمام وفرق المتهمين وأخذ يوجه لهم اسئلة حول تفاصيل سفرهم ومنازلهم حتى ظهر تناقض اقوالهم فاعترفوا بجريرتهم.
3. ويروى ان الإمام عليه السلام كان قاعدا في مسجد الكوفة فمر به عبد الله بن قفل التميمي ومعه درع طلحة فقال علي عليه السلام: هذه درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة فقال له عبد الله بن قفل: فاجعل بيني وبينك قاضيك الذي رضيته للمسلمين، فجعل الإمام عليه السلام بينه وبينه شريحا فقال علي عليه السلام: هذه درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة فقال له شريح هات على ما تقول بينة، فأتاه بالحسن عليه السلام فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة فقال شريح: هذا شاهد واحد فلا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر فدعى قنبرا فشهد أنها درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة، فقال: شريح هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك، قال: فغضب علي عليه السلام فقال: خذوها فإن هذا قضى بجور ثلاث مرات قال: فتحول شريح، ثم قال: لا أقضي بين اثنين حتى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرات؟ فقال له: ويلك أو ويحك إني لما أخبرتك أنها درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة فقلت: هات على ما تقول بينة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: حيثما وجد غلول اخذ بغير بينة، فقلت: رجل لم يسمع الحديث فهذه واحدة، ثم أتيتك بالحسن فشهد فقلت: هذا واحد ولا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وآله بشهادة واحد ويمين فهذه ثنتان ثم أتيتك بقنبر فشهد أنها درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة فقلت: هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك، وما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا، ثم قال: ويلك أو ويحك إمام المسلمين يؤمن من أمورهم على ما هو أعظم من هذا.(الكافي: 7/385)
ونلحظ ان لهذه الرواية دلالات كما ياتي:
1. لقد اشترط الإمام عليه السلام على شريح ان لا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه عليه السلام، وهذا يدل دلالة واضحة على اشراف الإمام عليه السلام على القضاء في مراحله النهائية.
2. ممارسة الإمام عليه السلام استنئاف الحكم.
3. ان اللغة التي استخدمها امير المؤمنين عليه السلام في الاعتراض على حكم شرع كانت في غاية الدقة، وكانت العلل التي يقدمها عليه السلام مدعومة بالدلالة الشرعية من قبيل قول النبي صلى الله عليه واله (حينما وجد غلول أخذ بغير بينة) وقضاء رسول الله صلى الله عليه واله بشاهد واحد ويمين، ولا بأس بشهادة المملوك اذا كان عدلاً.

ج. الشهادة والشهود:
وللشهادة اصول بنانية تلحظ في الدعاوى القضائية منها: عدالة الشاهد وصحة الشهادة، وتخصيص شهادة ما يتعلق بالقضايا النسائية والنساء، واستخدام اساليب فنية في الاستقصاء وعدم الاقتصار على طلب البينة وفي ذلك روايات منها:
1. تفريق الشهود او المتهمين.
2. شهادة النساء في الأمور الخاصة لهن.
3. شهادة الأربع في الزنا.
4. العدالة في الشهادة والشهود.
ودلالات هذه الروايات هي:
1. يجب ان يتمكن القاضي من الاستقصاء في اكتشاف الحقائق المتعلقة بالقضايا الجنائية والحقوقية سعيا من اجل الوصول الى الحقيقة.
2. التخصص في الشهادة فشهادة النساء على القضايا النسائية.
3. لا بد من التدقيق في قضايا الشهود والتثبت من عدالتهم والاطمئنان بأنهم على ادراك تام بان قضية الشهادة قضية جدية وخطيرة.

نشرت في الولاية العدد 100

مقالات ذات صله