مذكرات رجل ميت

أرشد رؤوف قسام

هذه المحطة عبارة عن مقال وليس قصة سأكتب فيه مذكرات رجل ميت تضمن احاسيس وخلجات كانت لتمثل حالة فيها بعض المعلومات والعبر التي تنفع القارئ الكريم وستكون على شكل حلقات والله من وراء القصد.

بعد(1) رفع الاذان لصلاة المغرب والعشاء وصل النعش الى مسجد الطوسي ووضع في باحة المسجد ثم وضعت طاولة عند وجهة الرأس ووضع فوقها نسخة من القرآن الكريم.
كان المسجد مكتظا بالمصلين ويتقدمهم الامام في صلاة الجماعة هنا صاح الرجل الميت على بعض الواقفين الى جوار النعش (ما بالكم انها الصلاة اياكم وتأخير الفريضة هيا اذهبوا هيا ادركوا الجماعة) وبعد الانتهاء من الصلاة انفض المصلون ولكنهم بعد ان فرغ المسجد من المصلين بدأ الاقارب يتجمعون وبدات احاديثهم تتنوع فمنهم من يسأل عن سبب الوفاة ومنهم من يتحدث بمواضيع اخرى لا تمت لشأن الميت بصلة، عندها انتفض الرجل الميت قائلا: (ما بالكم استغفروا الله الذي خلقكم فانكم ميتون لا محالة ليكن تجمعكم هذا توبة واستغفار واستذكار ليوم الحسرة فلكل شخص ذنوب كثيرة وحقوق للآخرين سارعوا لا براء ذممكم وردوا كل حق لأهله واستغفروا الله ما دام فيك عرق ينبض فياليتني استطيع ان اسأل بعض الذين مازحتهم هل سببت لهم اذى) ولكن دون جواب فلا أحد يسمعه.
اقترب الوقت الى منتصف الليل عندها لم يبق سوى ابناءه الاربعة وثلاثة من ابناء اخيه حتى خادم الجامع انصرف تاركا لهم اغلاق الباب عند الخروج، وما ان ابتعد الوقت عن منتصف الليل بدقائق حتى غادر الجميع المكان بعد ان ودعوا الجنازة بقراءة الفاتحة ليعودوا في الصباح لاكمال مراسيم الدفن والزيارة.
ساد الصمت والظلام في المكان باستثناء مصباح في المصلى ومصباح اخر وسط المسجد عندها انتحب الرجل الميت وراح يراقب المكان ويتفحص اجزاءه بعد ان واسى روحه التي حزنت فقال في نفسه لا تحزني يا نفس هذا حال الاحياء في الدنيا الم اترك والدي وثم والدتي عند موتها في ذلك المسجد الصغير في محلة البراق واذهب للنوم في فراشي مع اهلي.. تبدد الظلام والوحشة حال وقوع نظره على مقبرة السادة ال بحر العلوم، تذكر تلك الكوكبة الطاهرة من العلماء العاملين في وقتهم وعلى رأسهم السيد محمد مهدي بحر العلوم تذكر مجالسهم وحلقات درسهم ونضالهم ومؤلفاتهم حقا انهم خدموا الدين خدمة كبيرة وهاله ما رأى من ذلك النور الذي يصعد من السرداب الذي يحوي اجسادهم الطاهرة ليتسلق الى عنان السماء كما ذلك النور الصاعد من قبر الشيخ الطوسي قدس سره حيث توجه الى قبره الشريف وقال السلام عليك يا شيخ الطائفة واخذ يلثم ذلك القبر الطاهر وهو يستذكر ويقول انه شيخ الطائفة ابو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي ثنيت له وسادة المرجعية وزعامة المذهب الجعفري وكان من كبار الفقهاء والمفسرين والمحدثين الشيعة اسند له كرسي كلام بغداد ثم اضطر للهجرة الى النجف الاشرف ليؤسس الحوزة العلمية فيها.
ثم توقف الرجل الميت برهة وتذكر الصلاة التي كانت تقام في المسجد وحلقات الدرس والمجالس الحسينية والمناسبات الاخرى وكذلك تذكر مجالس الفاتحة التي كانت تقام في هذا الجامع وكيف كان يوزع نسخ من اجزاء القرآن على الحاضرين ليتشغلوا بقراءة القرآن بما ينفعهم وينفع الميت الذي يحتاج الرحمة والرضوان، ثم قال (ما بال مجالس الفاتحة هذه الايام لا يوزع فيها القرآن ولا هم يسمعون ما يتلى من سور القرآن حتى يتدبروا ويتعظوا)؟
ثم اخذ يحف بأركان الجامع ليشم عبق الماضي واثر العلماء والصالحين حتى احس بحركة رجل فتح باب المسجد (انه خادم الجامع نعم انه هو اذان الفجر سيدرك) تذكره جيدا وتذكر اباه حيث كان يعمل في المسجد قبله اراد ان يتحدث اليه ولكن دون جدوى حيث انشغل الخادم بالبسملة والصلاة على محمد وال محمد والحوقلة والاسترجاع، ثم انار المسجد وتوضأ ودنا من النعش وقرأ الفاتحة ثم توجه للمسجد وأخذ يقرأ القرآن وبدأ مؤذن الحضرة المطهرة بالتمجيد من مأذنة الصحن العلوي الطاهر قبل رفع اذان الفجر ثم دبت حركة قوية في الشارع أي شارع الطوسي حيث بدأ الزوار التوجه للصحن الشريف لاداء صلاة الفجر وكذلك بدأ اصحاب الجنائز لأداء الصلاة والزيارة على موتاهم قبل ان يدفنوها في وادي السلام، رفع الاذان وبدأت الصلاة الجماعة في المسجد بعد ان التأم المصلون وامام الجماعة وما كادت ان تنتهي الصلاة حتى بدأت حركة اخرى في المسجد وهي حركة طلبة العلم حيث اخذ الطلبة يشكلون حلقات ثم اخذ الاستاذ (عالم الدين) يلقي عليهم محاضرة في الاصول والطلبة بين مستمع صاغ واخر يكتب في دفتره ما يقوله الاستاذ، فهنيئا لمن ادى صلاة الفجر جماعة عند حرم امير المؤمنين عليه السلام او أي مسجد قريب منه انها سعادة ما بعدها سعادة وهنيئا لمن انشغل في الدرس والتعلم والتفقه بالدين هذه هي النجاة الحقيقية بالعلم والعمل الصالح، بعدها ملئت الشمس المكان ضياء وعندها حضر اولاد الرجل الميت ومعهم عدد من الاقارب وحملوا النعش وساروا به خارج مسجد الطوسي ليوضع فوق سيارة احدهم حيث قرروا التوجه صوب كربلاء المقدسة لاداء الزيارة للنعش فتعالت اصوات لا اله الا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – في العدد السابق وصلنا في مذكرات رجل ميت الى رفع النعش بعد تغسيله وتكفينه في مغتسل بير عليوي والتوجه به الى مسجد الطوسي ليبقى تلك الليلة حتى الصباح ليؤخذ الى كربلاء ثم يشيع ويدفن.

نشرت في الولاية العدد 101

مقالات ذات صله