مذكرات رجل ميت

هذه المحطة عبارة عن مقال وليس قصة سأكتب فيه مذكرات رجل ميت تضمن احاسيس وخلجات ما كانت إلا لتمثل حالة فيها بعض المعلومات والعبر التي تنفع القارئ الكريم وستكون على شكل حلقات والله من وراء القصد.

الحلقة السابقة من مذكرات رجل ميت – رفعت الجنازة للذهاب الى كربلاء للزيارة-
انطلقت سيارة الجنازة ومعها عدد من سيارات الاقارب للتوجه الى كربلاء لزيارة مرقد الامام الحسين عليه السلام واخيه ابي الفضل العباس عليه السلام اخترق الموكب شارع المقبرة ليصل الشارع العام الذي يوصل لكربلاء المقدسة انه طريق كربلاء نجف قالها الرجل الميت متذكرا بسعادة كم سار في هذا الطريق مشيا على الاقدام وكم ليلة جمعة ذهب الى قبر الحسين عليه السلام زائرا عارفا بحقه، ثم صاح بأعلى صوته انه طريق الجنة انه طريق الايمان الذي ترفرف عليه الملائكة كما اراها الآن اعرفوا حق هذا الطريق واياكم ان تقصروا في حقه واياكم ان ترتكبوا فيه موبقة أو ذنبا حافظوا على نظافته دائما انه درب محفوف بالقداسة مزروع بأفئدة المحبين، أني لأرى ما لا ترون اني ارى السعداء من اولئك الذين سقطوا حبا للوطن والدين والمذهب، على عكس التعساء من الذين افرطوا في اداء واجبهم الحق واساءوا أن الطريق لشاهد عليهم.
وصل الركب الجنائزي الى خان النص او خان الجماد او الحيدرية كما يسمونه بعد توقف قليل عن الكلام صاح الرجل الميت، هذه احداث انتفاضة صفر عام 1977 تعرض على شاشة ربانية اراها بكل وضوح لقد شاركت معهم ونجوت من بطش السلطة الظالمة باعجوبة هذه راية (يد الله فوق ايديهم) تعرض بوضوح أمامي ها هم الشباب الحسيني النجفي العلوي يهتف (ابد والله ما ننسى حسينا) اني اسمع الهتاف بكل وضوح اني اسمع (أهل النجف يا أمجاد راياتكم رفعوها) انه يوم 9 شباط 1977 المصادف 20 صفر 1397هـ انه يوم زيارة الاربعين واسمع صوت الاليات العسكرية لنظام البعث تمنع المسيرة الراجعة نحو مرقد الحسين عليه السلام فكانت انتفاضة عارمة قمعت باعنف الوسائل الارهابية يا لها من ايام لا تنسى.
ثم ساد الصمت وما هي الا لحظات حتى اخذ الرجل الميت يستشعر بانسام كربلاء والشهادة تهب لترفع البردة التي غطت بها الجنازة ثم احس الرجل الميت بذلك النور الصاعد في السماء رغم النهار واشعة الشمس الا ان نور الحرمين وما بينهما يلتف حول ضياء النهار ليستقر في عنان السماء وهنا صاح الرجل الميت جئنا يا كربلاء لنودع قبر الحسين وقبور الشباب وقطيع الكفين لهذا الجسد المسجى أما الروح فتبقى تزوركم وعند مليك مقتدر، ثم وصل الموكب الى حرم الحسين وأخيه العباس وتمت مراسيم الزيارة ثم عادوا بالنعش الى النجف.
وصل النعش محمولا الى النجف وقبل ان يتوجه به نحو مسجد الطوسي مروا به على بيته حتى تودعه العائلة الوداع الاخير.. صاح الرجل الميت دعوني هنا دقائق حتى يتزودوا مني عبرة.. أهل بيتي وجيراني وأصدقائي هذا مصير الانسان لا محالة اسمعوني ولكن للأسف لا أحد يسمع!!!
انزل النعش في المسجد بانتظار الناس للتجمع حتى ينطلقوا به نحو مرقد امير المؤمنين عليه السلام للصلاة عليه ثم تشيع الجنازة نحو القبر، هنا احس الميت بهدوء تام وكأن الصمت لف المكان باجمعه حتى بدد ذلك الصمت، صوت منبعث من مكبر الصوت الخاص بالمسجد وهو يقول: (سيشيع بعد قليل جثمان المرحوم ………. وستقام الفاتحة ………. أن لله وانا اليه راجعون)..
عندما سمع اسمه صاح الرجل الميت.. لا ..لا ..لا.. أنا الان افقت انا الآن صحوت مما كنت عليه انا الان اسمع الاصوات بحقيقتها وارى الوجوه على حقيقتها وارى الالوان على حقيقتها وقد ذهب ما يغشها وانتم الذين لا تعوا ما أرى واسمع حقا.. حقا (ان الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا) ولكن لا أحد يكترث.. عندها رفعت الجنازة ثم تمت الزيارة والصلاة وتوجهوا بالجنازة وهي محمولة على اكف الاقارب والاصدقاء يتقدمهم اولاد واخوة الرجل الميت في خطوات متسارعة في شارع الطوسي نحو ساحة التوديع وما ان وصلوا الساحة في نهاية شارع الطوسي حتى التف اهل وذوي الرجل الميت ليودعوا من جاء في التشيع وبقي عدد من الاقارب والاصدقاء والجيران مع اهل الرجل الميت لكي يكملوا مراسيم الدفن..
هنا صاح الرجل الميت (وداعا ايها الاحبة ان السير في تشييع الجنائز من الاعمال المحمودة والصالحة والمستحبة كثيرا ولكن تذكروا ان يوما ما ستكونون محمولين فاعتبروا يا اولي الالباب، فانا اتذكر جيدا كيف كنت اسير مشيعا في هذا الشارع لصديق او قريب وكم كنت افكر في هذا اليوم وها أنذا وصلت الى هذا اليوم، أيها الناس اسمعوا وعوا واذا سمعتم فانتفعوا ان من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت).
لكن لا أحد يسمع وكل في شأنه سار النعش نحو القبور محمولا وتخطى القبور ثم صار مرقد هود وصالح عن يمينه ومقام صاحب الزمان عن يسارة ثم ساروا به قليلا عندها صاح الرجل الميت لا تبتعدوا كثيرا لنا مقبرة هنا اعدت ليوم مثل هذا وقد سمعت ان حساب البرزخ يخفف كلما كان القبر قريبا من مرقد امير المؤمنين عليه السلام – عندها وصلوا القبر وكان كل شيء جاهزا للحفر.. الماء.. الجص.. الطابوق.. التراب.. عندها وضعوا النعش واخرجوا الجثمان واستعدوا للدفن بنقلات ثلاث مع رفع القامة اودع القبر وحلوا الكفن ووضعوا تحته التراب ثم غطي تمام الجثمان بالتراب هنا بدأ الابن الاكبر بتلقين اباه فبدأ بالبسملة والصلاة على محمد والحوقلة والاسترجاع، ثم قال: اسمع افهم يا فلان ابن فلان- هنا تبسم الرجل الميت عندما سمع اسمه واخذ ينصت لما يقول ولده ويردد بالضبط ايمانا منه بالاحاديث المروية بأن الميت اذا لقن قال منكر ونكير قد لقنتموه فلا حاجة في سؤاله- وما ان اتم التلقين حتى اغلق القبر وبدأ الحاضرون يهيلون عليه التراب ويقرأون الفاتحة ترحما عليه عندها اخذ الاولاد بالبكاء الشديد لألم الفراق الذي احسوا به فناداهم الرجل الميت اولادي لقد بدأت الحياة الابدية الكل يموت والبقاء لله وهنيئا لمن عمل صالحا من هنا يبدأ طريقان احدهما نحو السعادة واخر نحو التعاسة والشقاء واني لأرى طريق السعادة امامي انا بار بوالدي رحيم بإخواني عطوف على اولادي ودود مع زوجتي لم اسرق ولم اخُن ولم اظلم ولم اتجاوز على حقوق الاخرين أؤدي واجباتي وفروضي الدينية والشرعية على اكمل وجه لم أأكل الحرام ولم اطعمكم الحرام هيا اولادي انصرفوا بأمان الله..
وفعلا انصرف الجميع تبعهم اولاد الرجل الميت ليجتمعوا ثانية في البيت ليقرروا اقامة الفاتحة على روم المرحوم ثلاثة ايام في جامع الجوهرجي في شارع المدينة..

نشرت في الولاية العدد 102

مقالات ذات صله