كل ابن آدم مسكين

الشيخ بدري البدري

يتبادر إلى فكر المرء أحيانا حين يطرق سمعه أن فلانا من الناس مسكين إلى المعنى الذي تعنيه تلك اللفظة، وهو الانسان الذي لايملك شيئا من المال وقصرت يده عن الانتفاع من لذائذ الدنيا ومتعها والأخذ منها بقدر ما يسد حاجته، أوإلى الوصف بالمعنى الأدق للمسكين وهو من لايملك قوت يومه، وحد المسكين شبيه بحد الفقير ووصفه، فهما لايملكان ما يسد حاجتهما من المال ومُؤن المعيشة إلا أن المسكين أشد حالا من الفقير.

وفي الواقع إن جميع الناس مساكين سواء في ذلك من يملك قوت يومه أو سنته أو حتى عمره كله ، وذلك بلحاظ فقر الإنسان وحاجته ونقصه اللامتناهي الى من يغنيه ويقضى حاجته ويسد نقصه ، فلا يعني ملكه لشيء من المال أو الثروة غناه وعدم مسكنته على الإطلاق ومن هنا يصف مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) الإنسان وضعفه وحاجة كل إنسان غنيا كان أم فقيرا قويا أم ضعيفا حاكما أم محكوما بأروع كلمة وأدق نعت كما هي روائعه كلها فيقول:
مسكين ابن آدم : مكتوم الأجل ، مكنون العِلل، محفوظ العمل ، تؤلمه البقة ، تقتله الشرقة ، وتنتنه العرقة .
ولاشك أن نعت الإنسان بهذه الصورة من الضعف وحده بهذا الحد في كلمة الإمام علي (عليه السلام) هو تنبيه له وتعريف بحاله الذي لا يخلو من استكانة وحاجة في مختلف أدوار حياته.
والكلمة فيها عبرة واضحة وتأسف على حال الإنسان من الإمام المحب المشفق عليه الداعي لخيره وإسعاده ورفع شأنه كما أراد الله تعالى له أن يكون قدوة صالحة في مجتمع ابتعد أهله عن الفضيلة وانحسرت فيه الأخلاق والمثل وحلّت محلها الماديات بصورها وألوانها المختلفة التي توافق إنسانيته وقيّمه أو تخالفها، فصار الإنحلال بديلاً للإنضباط وأصبح الناس كأنهم مجاميع من الكائنات الحية لا يربطهم جانب إنساني ولا يجمعهم دين أو معتقد ولا يربطهم رابط يمت إلى إنسانيتهم بشيء .
والإمام في حكمته هذه يدعو الإنسان الى أن يكتشف نفسه ويعرف قدره ومحله بين الكائنات، فمن الأمور التي أخفاها الله وغيب معرفتها عن الناس هي عدم معرفة العمر أي لا يعرف أحدنا كم يعمر ثم متى يموت وينتقل عن هذه الحياة الدنيا المليئة بالآفات والنكبات إلى الحياة الباقية الخالدة دائمة العطاء والنعيم .
فكل امرئ رهين عمله في ذلك اليوم الموسوم بيوم الجزاء، ولعل العلة من وراء عدم معرفة الإنسان أجله إذ صيره الله عليه مكتوما دفعه للعمل الدؤوب والسعي لرضا الله الكريم، فالإنسان معروف بطول الأمل والتواني في فعل الخيرات مع تأثير نفسه الأمارة بالسوء عليه وحب الدنيا وزخرفها وزينتها ووساوس شياطين الإنس والجن، كل ذلك يمنعه من فعل الخير والإتيان بالأعمال الصالحة.
فلا ينجو الإنسان من أهوال يوم القيامة ولا يربح عطاء الله وهباته فيه إلا بالعمل الصالح الذي هو قرين الإيمان بالله قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
نعم فإن ابن آدم مكتوم الأجل لا يعلم في أي لحظة تنقطع حياته الدنيا وتنتهي مدتها وتأتي بداية الحياة الآخرة حيث الرحيل والانتقال إلى العالم الآخر الموعود به الذي يفترض به أن يكون قد قدّم مقدمات الفوز بجوائزه .
ويحوي ابن آدم المخلوق الضعيف بين جنباته مجموعة من العيوب الخَلقية، فقد يكون فيه نقص ولادي أو عَوق طارئ بما لا يجعله سويا كغيره، أو العيوب الخُلُقية كأن يعاني من عقد نفسية تقصر به دون بلوغ المرتبة المتكاملة للإنسان الإعتيادي، أو يشعر بحقد أو حسد أو ضغينة أو غيرها التي تحول دون التفاخر الذي يطلبه مثلا، والإنسان مكنون العِلل على حد تعبير الإمام (عليه السلام) فهو مُعَرضٌ للإبتلاء المستمر وفي مَعرَضِ المزيد من الإبتلاءات التي تؤثر وتغيّر طبيعة حياته ومجراها، فتراه يتألم ولا يعرف سبب ألمه، ويكون جليس فراشه أحيانا لعلة تخفى حتى على طبيبه، وقد يموت أحيانا ولا يعرفُ المعالجُ علّة وفاته فيكتب في شهادته: مات لشيخوخته ظنا منه أنها السبب في انقضاء عمره وجهلاً بحقيقة أمره.
ومن لم يستشعر الرقابة في نفسه قد ينحرف عن الجادة ويخطئ طريق النجاة، وليعلم المرء أنه مرصود من جهات تحصي عليه أعماله وهو لا يعلم ايّ نتيجة سوف يلقاها، أهي التي فيها هناءه وسعادته أم التي فيها شقاؤه.
محفوظ العمل: فقرة من حكمة قالها أمير المؤمنين(عليه السلام) تقلق الإنسان وتسلب راحته وتتعب نفسيته فما يأتي بفعل أو يلفظ من قول إلا ولديه رقيب عتيد، وذلك يخلق حالة من المتابعة والرقابة لأعمال وأفعال الإنسان تنغص عليه عيشه وتشده نحو ربه فتكون سببا للإبتعاد عن الكبر والغرور.
ومن العجيب ان الإنسان مع طغيانه واعتداده بنفسه وتكبره على بني جنسه، بل على عبادة ربه أحيانا، تؤثر فيه البقة مع كونها حشرة ما عساها تقوى على شيء إلا مدّ خرطومها الدقيق لتمتص ما يمكنها من الدم فيهيج من ألمها، ويشكو عدم النوم أحيانا من ألمها، وهي حشرة صغيرة لا يعبأ أحد بمثلها فإذا كان هكذا شأن الإنسان فهل يعني هو شيئا.
وتحت نظام دقيق صوره الحكيم جلّ شأنه يعيش الإنسان ويتنفس وفق عمليات معينة، فإذا اختلت وانسد مجرى الهواء بدخول حبة طعام فيه أو قطرة سائل فيغص وقد تكون نهايته بسبب ذلك.
تراه يشمخ بأنفه ويعلو بهامته كِبرا، ألا يخشى أن تأتيه أو تفاجئه غُصة من تلك الغصص وكم من الناس من مات بسبب غصة، بل بشربة ماء.
ولو لم يُزل الإنسان ما عليه من العرق وآثار التعب والأوساخ مدة يسيرة لفاحت منه رائحة نتنة تنفر منه الناس ولو كانوا ذوي رحم. ولشكوا إليه ذلك بما يؤذيه، ولتأذى هو من نتن نفسه ، وقد يمر على الإنسان يوم أو بعضه بلا غسل فتظهر رائحة بدنه وتعرق جلده، فكيف به فيما وراء الحياة وفي عالم القبر إذا تفسخ جسمه وتحلل بدنه وانتشرت الروائح والأوبئة حوله، ألا في ذلك عبرة له وتأديب لنفسه؟

نشرت في الولاية العدد 103

مقالات ذات صله