جبل الصبر العقيلة زينب (عليها السلام)

فاروق أبو العبرة

لابد من التركيز على المنهج والأسلوب السياسي في سيرة الحوراء زينب(عليها السلام) ليس من ناحية القيمة التاريخية وإنما ما احتلته من مكانة بين عظماء الدنيا الذين صنعتهم الظروف أو من الذين في ذواتهم عظمة، إذ لا يصح القول أن عظمة زينب(عليها السلام) لشرف الانتماء إلى علي وفاطمة(عليهما السلام).

فالنسب لا يعطي فضيلة بقدر ما يعطي الموقف والقرار والحركة الإنسانية والإسلامية من أبعاد في صناعة الشخصية.. وكل من تقوم بمثل عمل زينب(عليها السلام) تحصل على مثل مقام العظمة فيها.
زينب الكبرى(عليها السلام) من يوم أن وعت وغاب عنها أبوها الإمام علي(عليه السلام) وأخيوا الحسن(عليه السلام) أدركت أنها من عائلة في دائرة تحيط بهم الضغائن، وقلوب مكدرة تضدهم.. فأعدتها الظروف من تلك الأيام وامتدت بها المحن إلى أيام الحصار في كربلاء وحدوث الفاجعة في العاشر من المحرم وأُلقيت على عاتقها مسؤولية الركب الحسيني. فمن أثر تلك الأيام المظلمة التي مرّت عليها، تعلمت أنها تختار لكل موقف ما يناسبه فعندما قرر الإمام الحسين(عليه السلام) فجأة في ليلة التحرك من المدينة، على الفور أحضرت أبنيها محمد وعون، وأدركت أهمية الطريق الذي يجب أن تسلكه، وشعرت بخطورة ما سيتعرض له الإمام الحسين(عليه السلام)، فأبت إلا أن تكون حاضرة في المحنة تشد أزر أخيها وتصل معه في قافلة الأولياء إلى الله عزوجل. في حين رجال كثر تخلفوا وكانوا متحيرين ماذا يفعلون.
واقعة الطف
بوجود زينب(عليه السلام) إلى جنب الإمام الحسين(عليه السلام) ما كان يشعر بوحدة أو وحشة، فأي دور كانت تلعبه زينب(عليها السلام) في حياة الحسين(عليه السلام) وبخاصة في واقعة الطف تلك الحادثة التاريخية الخالدة ومواساتها للحسين(عليه السلام) تحمي وتنظم شؤون عياله وتؤكّد على الرجال مسؤوليتهم تجاه إمامهم، وهي العالمة فيما يجب أن تؤكد عليه من الصلابة على المبادئ ودفاعهم عن الحق الإلهي وثباتهم على الموت الذي هم عليه عازمون.
ولعل صوت الواقعة لم يصل إلى الناس في تلك المرحلة، إلا أن خطبتيها في المجالس العامة في الكوفة والشام أوصلته هي وكانت تؤنب الحكام وتؤلب الناس، والتأريخ نقل إلى الأجيال ذلك الدور من كلماتها ومن حركتها، فكانت عامل انتصار سيد الشهداء(عليه السلام) انتصار الدم على السيف بزينب(عليها السلام).
ومما يُنقل أن بطلة كربلاء اضطربت في موقفين، الأول عند مجيئ خبر شهادة مسلم ابن عقيل، وزينب(عليهما السلام) في النهاية هي أمرأة ذات عواطف، حين سمعت هذا الخبر من الحسين(عليه السلام)، فأحست بالخطر المحدق أكثر من أي وقت مضى، وشعرت بضغط النفس، وعلمت أن لابد من الإصرار وإبداء الصلابة، إذ لا يمكن إلا أن تتجلد وتخفف عن الإمام الحسين(عليه السلام) رغم خوفها الشديد من المستقبل.
والموقف الآخر ليلة العاشر من المحرم وهو أنْ تسمع الإمام الحسين(عليه السلام) ينشد ويقول:

يا دهر أفٍّ لك من خليلِ          كم لك في الإشراق والأصيل

عندها علمت أنه أصبح واثقاً من أنه سوف يرتحل، وغرقت في بحر من الهم والحزن الشديد وقالت: أخي أراك تنعى نفسك… لقد كنّا إلى اليوم نأنس بك، وجالت ببصرها بدموع ألا يراهما الحسين(عليه السلام).

جبل الصبر
ولعل الحالة التي كانت عليها حالة في غاية من الألم والاكتئاب، وهي تتصور الوضع الذي ينتظرهم. والإمام السجاد(عليه السلام) كان يصور وضع عمته زينب(عليها السلام) في تلك اللحظات بأنه وضع صعب إلى حد بعيد، وهي تفكر بأكثر من ثمانين امرأة وطفل بين أمواج بحر متلاطم من الأعداء، فكم يحتاجون لسد جوعهم وعطشهم وحراسة هذا الحمل الثقيل، فكان الوضع مهولا، فكيف لامرأة أن تجمع هذا العدد بالرغم من فقدها الحماة والاخوان وأولادهم و ولديها وثمانية عشر شاباً من بني هاشم فضلاً عن الأصحاب، ففاضت بالمصيبة بما جرى للشهداء، والله تعالى وحده يعلم ما كانت تعاني، فتارةً راكضة في البراري وراء الأطفال لتفرقهم في الصحاري وتارة من الأمهات اللاتي يقابلنها، فهذه ثكلى بزوجها وتلك بولدها وأخرى برضيعها وأخرها بأخيها فهي تواسي وتصبّر وتعطف، وعندما يفيض بها الصبر والكم الهائل من المرارة والمعاناة تذهب إلى جثة أخيها الحسين(عليه السلام) تخاطبه وتتجه صوب مدينة جدها رسول الله (صلى الله عليه واله) وتقول: (يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء هذا الحسين بالعراء مرملٌ بالدماء) وتارةً إلى الكوفة تخاطب أباها علي المرتضى(عليه السلام)، وأن التأريخ الإسلامي حفظ لزينب(عليها السلام) ما حققته من الانتصار فيما بعد واقعة الطف وقيامها بالدور الذي كان ينبغي على كل مؤمنة عالمة واعية صابرة كزينب(عليها السلام) تقدم جهادها في سبيل الله، وما عرفته امرأة أذلت بخطبها أعداء الله، فكانت تكشف عن علم وتحليل دقيق عن أوضاع تلك المرحلة وما وصل إليه المجتمع الإسلامي في ذلك العصر من انهيار المبادئ الإسلامية.

بيان الرائع
أحضروا هذه المرأة المسبية المثكولة بأهلها وبحماتها أمام مرأى الناس الذين جاؤا للتفرج فجسدت وهي المتكلمة بلهجة أبيها أمير المؤمنين وبذات الطريقة من فصاحته وبلاغته وبذاك السمو والشموخ المحمدي وقالت: (يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر…) ويعني أيها المخادعون لعلكم صدقتم أنكم مسلمون تنالكم شفاعة جدي رسول الله(صلى الله عليه واله) ولكن هيهات لقد طبع الله على قلوبكم وسوّل لكم الشيطان وصرتم عمياً إذ لم تتمكنوا من معرفة الحق في الفتنة (ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف وملق الإماء وغمز الأعداء)(1) أي مالكم ففعلكم وكلامكم لا ينسجم مع قلوبكم ولقد غرتكم أنفسكم وظننتم أنكم مؤمنون في حين أن واقع أمركم إلى خسران… (وإنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم). أي من غير وعي أو بصيرة صرتم إلى الضلال وصعب عليكم الاهتداء إلى الحق وأبطلتم أعمالكم وأحبطتم سوابقكم، وكان ظاهركم إيمانا وباطنكم أجوفا لا يعين على النجاة بل ساقكم إلى الخسران. وهي عليها السلام تتكلم بهذا لأن بعضهم ممن كتبوا الرسائل للإمام الحسين(عليه السلام) أن أقبل علينا ونحن لك جدٌ مجندة.
فمن هذا البيان الرائع، جعلت الناس يضعون أيديهم على رؤوسهم وينتحبون فهم ممن نقض العهد، وإذ لم تعد زينب(عليها السلام) كما كانت قبل هذه المأساة، فأظهرت من القوة والجلادة ورباطة الجأش ما عدتها الانسانية أنها من العظيمات في التأريخ، وأصبحت رؤيتها رؤية أخيها الحسين(عليه السلام) في نضاله وجهاده في الحياة السياسية، وكلامها كان بمستوى المرحلة تفضح جرائمهم المنكرة وأساليب النظام اللاسلامية، وتؤكد على الهدف أن الناس في غير طريق الحق بمعاونتهم وسكوتهم على المناهج المنحرفة التي ينتهجها يزيد وعبيد الله بن زياد وأعوانهما.
____________________
(1) المجسلي، بحار الأنوار، 45/109.

نشرت في الولاية العدد 104

 

مقالات ذات صله