اللغة في ديوان العرب .. وفناجين اللهجات

تحقيق شاكر القزويني

تعد اللغة العربية من اللغات السامية الأكثر تحدثا، المتفرعة من مجموعة اللغات الإفريقية الآسيوية، التي تضم لغات حضارة الهلال الخصيب القديمة، كالأكدية والكنعانية والآرامية واللغة الصيهدية (جنوب الجزيرة العربية) واللغات العربية الشمالية القديمة وبعض لغات القرن الإفريقي كالأمهرية، يتحدثها أكثر من 422 مليون نسمة، جلهم في الوطن العربي. اللغة العربية ذات أهمية قصوى لدى المسلمين، فهي لغة القرآن الكريم، ولا تتم الصلاة والعبادات إلا بإتقان بعض من كلمات هذه اللغة. ولا يخفى على أحد ديوان العرب، الذي هو خلاصة ونتاج ابداع هذه اللغة شعرا، والعربية هي أيضا لغة طقسية رئيسية لدى عدد من الكنائس المسيحية في الوطن العربي، كما كتبت بها الكثير من أهم الأعمال الدينية والفكرية اليهودية في العصور الوسطى، وأثّر انتشار الإسلام في أن أصبحت لغة للسياسة والعلم والأدب لقرون طويلة في الأراضي التي حكمها المسلمون.

وبعد اجتياح المغول للشرق العربي في القرن الثالث عشر، أصبح هذا الشرق كما تصفه المستشرقة كارين آرمسترونغ «يتيما»، حتى اصبح جهد فقهاء وعلماء العصر المملوكي ينصب على جمع ما ضاع من اللغة بدل السعي الى الاجتهادات الفقهية وفتاواها، واستطرد هذا الانحسار مع تراجع الأمة العربية وتقدم الغرب حضاريا.
بعد اصابة اللغة العربية طيلة 400 سنة من التراجع والضعف، أخذت في أواخر القرن التاسع عشر تشهد بعض الانتعاش. تجلّى بنهضة ثقافية في بلاد الشام ومصر وبعض مدن العراق كالنجف الأشرف وبابل (بسبب وجود الحوزة الدينية فيهما).
ولا يخفى ان اللهجات كانت موجودة عند العرب من أيام الجاهلية، حيث كانت هناك لهجة لكل قبيلة من القبائل. وقد استمر الوضع هكذا بعد مجيء الإسلام. ويُرجح أن العامية الحديثة بدأت منذ الفتوحات الإسلامية، إذ أن المسلمين الجدد في بلاد الأعاجم بدأوا بتعلم العربية لكنهم لم يَستطيعوا تحدثها كما يتحدثها العرب بالضبط، وبالتدريج حرفت العربية وتغيرت صفاتها الصوتية وتركيب الجمل فيها، حتى تحوّلت إلى اللهجات العامية الحديثة التي تعمقت بعد سياسات التتريك والفرنسة التي فرضت على الشعوب العربية ابان احتلال وطنهم.
يعتقد بعض المتخصصين ان انتعاش اللغة وتطورها لم يكن على وتيرة متصاعدة في الآونة الأخيرة فأبدى المتخصصون رأيهم في هذا المجال، ولا سيما في ظاهرة استعمال المفردة العامية (اللهجات) حتى في الشعر الفصيح، وكانت هذه الآراء محط جدل وتفاوت واتفاق أحيانا بهذا الخصوص، مما جعلنا نضع الشاعر «موفق محمد» الشاعر الذي حظي بقبول حسن بهذه التجربة الشعرية، أمام المتحدثين من أساتذة ومتخصصين في هذا المجال لإبداء آرائهم عن ولوج العامية في بناء اللغة العربية.

الشعراء يزحفون بعيدا عن اللغة
فيقول الدكتور علي شمخي / الأكاديمي والإعلامي عن مستوى اللغة العربية وحالها اليوم: لربما على خجل في مدينة النجف الاشرف وفي جوار ضريح الامام علي إمام البلاغة وانا أرى هذا التدهور الكبير في اللغة العربية، هذه اللغة التي لطالما تدثرنا بها كلغة للقران الكريم ولطالما حرص علماؤنا وأدباؤنا وكتابنا على المضي بها حتى آخر يوم من حياتهم، نراها اليوم في وضع يرثى له، وللأسف أمام هذا التطور الكبير في الفضاء الالكتروني وانتشار وسائل الاعلام الكثيرة وأمام توسع المنتديات العلمية والاعلامية وتطورها، فنحن لا نرى في اللغة العربية تطورا يوازيه بما يجعلها بمكانتها المعهودة.
وعن اغتصاب المفردات الشعبية للنص الفصيح، أشار شمخي لهذا الموضوع/قائلا: ربما هناك حيز ومساحة يتاح بها استخدام بعض المفردات الشعبية، شيء جميل جدا ان يتم المزاوجة على الا يكون هذا التزاوج بشكل يدعونا الى ترك اللغة العربية خلفنا والمضي باللهجة الشعبية الدارجة فيجب ان يكون القدح المعلى للغة العربية ولا ضير في إدخال بعض المفردات لغرض المتعة الشعرية ولغرض ادخال بعض التحسينات الجمالية، كما نجد عند الشاعر «موفق محمد» الذي استطاع الاشتغال على الشعبي في داخل النص الفصيح بشكل مؤثر ومتقن. قد لا يتاح لغيره.

العربية حفظها الله ورعاها
وكان للأستاذ الدكتور صباح عنوز رأي ينأى عما سبق اليه الدكتور علي شمخي حين يقول: لم تتردى اللغة العربية إطلاقا لان الله سبحانه وتعالى تعهد بحفظها إذ قال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر/9)، وقد مرت اللغة العربية منذ زمن طويل بانتهاكات ولاسيما في مصر والجزائر وباقي الدول العربية في شمال افريقيا وذلك بالفرنسة التي مارسها الاستعمار الفرنسي ابان احتلالهم لهذه البلدان فضلا عن سياسة التتريك عند العثمانيين في العراق وبلاد الشام ومصر، وغيرها من المؤثرات القسرية التي أبتليت بها بلداننا العربية، وهناك من الأدباء الكثيرين فيما مضى ممن ذهبوا الى أوربا ونهجوا العامية سبيلا في كتاباتهم ونتاجاتهم الابداعية، شعرا ورواية وقصة ومقالة. فيما نحن اليوم نشهد نموا وازدهارا في اللغة العربية حتى في تلك البلدان.
أما عن تجربة الشاعر «موفق محمد» في استخدامه للمفردة العامية فقد اتفق د. عنوز تماما مع د. شمخي في نجاح هذه التجربة حينما قال: أما شاعرنا « موفق محمد» في تجربته هذه، فقد تكلم بقدرة فنية لأنه أراد ان يوصل الى الوعي الجمعي مسألة دلالية فغرف من الشعر الشعبي شيئا لايصال الدلالة وهذا ليس عيبا عليه لأنه جاء اليه باقتدار لمحاكاة الوعي الجمعي، وهو أمر لا يتاح لكل شخص وانما لمن تمرس على هذا الأسلوب، فأنا عرفت الشاعر منذ الثمانينات والى الآن، وأعرف خوضه وتمرسه بهذا النهج، أي ان هناك منهجية في شعره لايصال دلالات الوعي الجمعي للمتلقي، فيها أساليب عدة منها: الاقتراب من الشعر الشعبي، التخير اللفظي، والاسلوب.

تجديد دماء اللغة
يتفق الكاتب والاعلامي د حيدر نزار السيد سلمان مع د. شمخي بموضوع تردي اللغة والخطر الذي يحيق بها، إذ يشير الى ان: واقع اللغة العربية واقع متردي خاصة في صفوف المتعلمين، لاننا نلاحظ ان هناك ضعفا في الاهتمام باللغة، من ناحية النطق والنحو والقواعد والإملاء، وهذا يؤكد على ان اللغة العربية في خطر، ثم ان إدخال مفردات اجنبية داخل اللغة العربية قد يشكل خطرا أكبر على اللغة نفسها لو افترضنا إدخال كلمات أو مصطلحات علمية او طبية لا يوجد لها بديل، لربما هذا مسموح به لكن استخدام مفردات موجودة اساسا في اللغة العربية هذا يشكل خطرا كبيرا، وانا اعتقد انه لابد من تجديد دماء اللغة العربية أو إعادة صياغة بعض الكلمات وكما قلت لك اننا نرى الضعف في الاملاء حتى بين طلبة الجامعات والاساتذة، فعلينا الحذر الشديد من التردي الذي يصيب اللغة العربية.
فيما يجد السيد سلمان عن النموذج الذي طرحناه في الشاعر «موفق محمد» وتجربته الشعرية التي ترتكز كثيرا على المفردة الشعبية بادخالها في صميم النص الشعري، ان» ادخال المفردة العامية موجود في كل الآداب العالمية في حال الاحتياج الملح لإدخال المفردة الشعبية، على أن لا يكون باستخدام أوسع من القصيدة، اي بمعنى استخدام ضعيف او قليل او نادر بشكل كلمات معينة، لكن استخدام يوازي الفصحى هذا غير مقبول. للحفاظ على اللغة العربية من التدهور والاختلال والاغتراب بعد حين، فاللغة العربية لها القدرة على التعبير المبدع ولأقصى مديات الإحساس والوعي، فهي لغة القرآن، وحسبنا هذا.

لغتنا جسد محافظ على نفسه
مهدي هادي الشعلان الشاعر والمتتبع للشان الثقافي أدلى بدلوه في معين اللغة العربية مؤكدا رصانتها وقدرتها على التماسك والاستمرار حين قال: ان اللغة العربية هي اللسان الناطق لأمة العرب وباللغة العربية نزل القران الكريم، وباللغة العربية تأسست حضارة الشعر العربية عن طريق ديوان العرب وهنالك بعض من حافظ على اللغة الام والبعض الاخر حاول ان يحدثها بالمدارس التفكيكية والسيميائية وهنالك نظريات النحو العربي ولكنها على قلتها لقلة الدارسين وقلة المتفهمين لهذه الطروحات الجديدة بمعنى ان اللغة العربية جسد محافظ على نفسه من غير الممكن اختراقه بسهولة.
أما بالنسبة للمفردة الشعبية المستخدمة بالشعر العربي بيّن الشعلان: لابأس ان تتضمن القصيدة الفصيحة للمفردة الشعبية، ولاسيما قصائد الحداثة والنثر، وهذا ما نجده نادرا فقليل هم من يكتبون القصيدة اليومية او القصيدة التي يريدون ان يوصلوها الى المتلقي بطريقة بسيطة، بمعنى ألا نعمم المفردة الشعبية على الاطار الكامل للغة العربية، فالشعراء الكبار هم الذين استطاعوا ان يوظفوا المفردة الشعبية في القصيدة من اجل ايصال معلومة معينة في مرحلة معينة، خصوصا تحت ظل التقلبات السياسية، فلا بأس ان توصل الفكرة الى المتلقي عن طريق المفردة الشعبية على افتراض ان المتلقي غير قادر على استيعاب الرموز والمعاني التي تتدفق من الشعر الفصيح، سيما ان اغلب مجتمعنا تسوده الأمية لذا هو لن يتمكن ان يرتقي الى فصاحة اللغة العربية التي هي جبل من المعاني، كذلك لا يخفى على أحد فان الشعر العمودي قائم بذاته ومنذ المعلقات لم يستطع الشاعر ان يخترقه بالمفردة الشعبية، فللعمودي أسس وقوانين وأساليب واوزان وموسيقى وايقاعات، فقط الحداثوية تستطيع استيعاب هذا الدخيل من اجل اطلاق فضاء الفهم من قبل عامة الجمهور، لكن ليس كظاهرة معممة على الشعر العربي الحديث، ورغم هذا انا لا أميل الى كثرة المفردات الشعبية في النصوص الشعرية.

الانحراف يبدأ في المناهج التربوية
وعن المناهج التربوية وما آلت اليه مستويات الطلبة المتخرجين باللغة العربية في كل المراحل أوضح الشاعر فاهم العيساوي/ مشرف فني في قسم النشاط المدرسي: هناك مشاكل عدة تواجه اللغة العربية وبالذات هنا في العراق، وهذا سيتجه حتما في تأثيره على الشعر الفصيح، وعندما يصبح الشعر الشعبي ممنهجا حين يدخل في المسابقات الادبية في المحافظات كافة مما سيؤثر سلبا على السنة الاطفال الذين من المفروض ان يتعلموا بدءً عدة لغة القران العربية الفصيحة، فهذه الفعاليات يجب ان تكون مقتصرة على الناس الذين وصلوا الى مرحلة لا يخاف عليهم من تشوه اللسان.
ان اللغة العربية الفصحى يتعلمها الطفل في كثير من الاحيان في البيت من افلام الكارتون فيأتي الى المدرسة وهو محمل باللغة العربية الفصحى الا انه سرعان ماسيفتقدها عند دخوله الى المدرسة بسبب الشعر الشعبي الذي يتداولونه هناك ووسائل التعليم ولغة المعلم الركيكة. أي الى فلسفة الدولة الفوضوية، كان فيما مضى فلسفة للتربية والتعليم واحدة للدولة توحد وزارة التربية والثقافة والتعليم العالي بحيث تسير الامور نحو هدف واحد, واليوم ليس هناك سوى الشتات، فنرى ان اختيار قصائد الشعر العمودي في المناهج التدريسية اختيارا سيئا لا يصلح الى مستوى التلميذ العلمي والعمري.

شاعر على منصة الاستجواب
وكان لصاحب الشأن في مبحثنا وتساؤلاتنا التي ارسلناها لتلقي الخبر اليقين من مقبولية وجواز ادخال المفردة الشعبية للشعر وأثرها على اللغة العربية، واسباب ضيق مدى الفصيح على الشاعر موفق محمد، الذي طلبنا منه توضيح الغاية من هذا النهج، في لجوء الشاعر الى العامية، فأجاب: اني انتهج هذا الاسلوب في كتابة الشعر منذ الستينيات، وأعزو ذلك الى، ان حدوث انفجار خطير ومدوي، مادي كان أو حسي، سيستفز ويحفز العواطف وسيدهش المشاعر، فتصبح جيّاشة، أجد ان المفردة الشعبية قادرة على ان تستوعب هذا في تلك اللحظة، ولا أقول ان اللغة العربية الفصحى لا تستطيع فعل هذا، لكنه تبادل للأدوار، تتوزع داخل القصيدة كالخلايا يشد بعضها بعضا، تتفاعل بعضها مع البعض الآخر لتصبح صافية رقراقة مليئة بالمفاجأة والدهشة، وهو منهج اصبح مطلوبا لكتابة نص حديث، فالاوربيون قد اشتغلوا هذه الطريقة منذ أمد بعيد، لكنها لم تصل الينا ولم نتعرف عليها، وفي النهاية فان لكل شاعر طريقته الخاصة فهناك البعض من الشعراء ممن حاول ان يكتب وفق هذا المنهج الا انهم لم ينجحوا، فهي صعبة جدا وتحتاج الى مراس وخبرة ووعي ثقافي بهذا الاتجاه، وهي بالنسبة لي قدرا يلاحقني منذ خمسين عاما، وبعد لم يحن الأوان ان أستريح.
وعن المعالجات التي من الممكن ان تصلح بعض المسارات الخاطئة أفصح العيساوي: ان الطالب في فترة المتوسطة وهو في مرحلة المراهقة من المفروض ان يختار من يضعون المناهج الدراسية والمختصين باللغة والأدب أشعارا وقصائد تليق وتتناسب في عمر الطالب، بينما الذي أراه قصائد كثيرة جدا اختيرت اختيارا سيئا لا تلائم المرحلة العمرية للتلميذ او الطالب، فينفر منها، وهذا سبب نفور الكثير من التلاميذ والطلاب من القصيدة العربية الفصيحة، فضلا عن الأهمية القصوى لوضع فلسفة تربوية وتعليمية توحد هذا العمل المقدس البالغ الأهمية لأنقاذ مستقبل ابنائنا ولغتنا على حد سواء.
ويشير د. علي شمخي الى بعض الحلول التي يجب اتخاذها لدرء هذا الخطر الذي يحيق باللغة العربية فيقول: فما مطلوب اليوم هو ان يسعى الآباء والمربون والأساتذة والمدرسون في كل المحافل العلمية بتذكير هؤلاء الاجيال في كل الحقب العمرية بان التحدث باللغة العربية هو عنوان للفضيلة فهي لغة القرآن ولغة أهل الجنة، وعنوان للرقي لأنها لغة الصفوة من أهل الأدب والثقافة والمعرفة، المشكلة اليوم في العبء الذي يقع على ابنائنا وهم يتعاطون مع هذا التدهور في المدارس بشكل خاص، فان عدم الاهتمام باللغة العربية قد خرّج عشرات الالوف من الطلبة الذين يصلون الى مراحل متقدمة في الجامعات وهم لا يجيدون نطق اللغة العربية وكتابتها، وللأسف نستطيع القول اننا في آخر المراتب بين أقراننا من البلدان العربية ونحن في العراق الذي لطالما حمل لواء اللغة العربية, به نشأت المدارس النحوية كمدرسة الكوفة والبصرة التي هي عنوان لكل مدارس اللغة العربية في العالم العربي والاسلامي .

نشرت في الولاية العدد 104

مقالات ذات صله