أيام وليالي شهر رمضان في النجف الاشرف

علي الوائلي

تميزت النجف الاشرف عن بقية المدن في استقبالها لشهر رمضان المبارك فكما ان للمدن عاداتها وتقاليدها لإحياء هذا الشهر الفضيل فان لهذا الشهر في هذه المدينة نكهة خاصة.. فهو الشهر الذي دعي فيه المؤمن لضيافة خالقه، فيحيي المؤمنون في هذه المدينة ليالي شهر رمضان بالعبادة وزيارة المراقد المقدسة والكثير من الانشطة الاجتماعية الأخرى.. فحلول شهر الخير رمضان يعني ان تتحول المدينة الى درة متوهجة وعالم إيماني روحاني تهدأ فيه النفوس وتستقر الأرواح المتعبة الباحثة عن الراحة والأمل, ولعل أروع وأجمل ما في هذا الشهر هو ليله البهيج وفيه تستمر الحركة حتى الصباح الباكر ..

بين العبادة والمجالس يقضي النجفي يومه في الشهر الفضيل
فعن كيفية قضاء نهار وليل شهر رمضان المبارك بالنسبة للنجفيين يبين المؤرخ العراقي الدكتور حسن الحكيم بان لرمضان نكهة متميزة في النجف الاشرف عن غيرها من المناطق وهذا لاشك يعود لعاملين العامل الاجتماعي والعامل العلمي والفكري فعلى الصعيد الاجتماعي فان الناس يستعدون لهذا الشهر منذ نهاية شعبان لشراء ما يحتاجونه من مواد غذائية تخص شهر رمضان وثم استخدامها في ايام الشهر مضيفا بان اليوم النجفي يمكن ان نقسمه الى اقسام فاليوم النجفي يبدأ من شروق الشمس الى اذان المغرب والحياة في النهار تكاد تكون راكدة لان الناس يحيون الليل الى وقت صلاة الصبح قائمين وتكون الحياة راكدة وحتى الاسواق نجدها مغلقة حتى الظهر او بعد الظهر ثم تبدأ الحركة لتأخذ مجالها الواسع وهذا يكون لعاملين: العامل الاول هو السهر الرمضاني وعامل الصيام، فالحركة تبدأ بعد الافطار بساعة وقد اعتاد النجفيون ان يذهبوا الى المرقد الحيدري الشريف لقراءة دعاء الافتتاح او لزيارة مرقد الامام علي عليه السلام ومن ثم التجوال داخل المدينة.
واما محمد علي ظاهر الملحة وهو من وجهاء وشخصيات هذه المدينة ومختص بالتراث النجفي فيؤكد ان في هذا الشهر نجد النفس اكثر كرما وتسامحا وحتى الناس الذين يوصفون بالتقتير والبخل نجدهم ذوي نفوس طيبة وايدي مبسوطة واذا ما أفطر الناس وابتلت العروق يزور بعضهم البعض وكل جيل ومستوى من الاعمار له شان خاص سواء كان ذكورا او اناثا فالأطفال والصبية لهم عاداتهم وتقاليدهم وهم يلعبون ويمرحون في الازقة فرحين بهذا الشهر كما ان للكبار ايضا تقاليد فالناس يزور بعضهم بعضا وكانت الازقة مظلمة قديما فيحمل بعضهم نوعاً من الضياء مثل (الكازه او النفطية) او الفانوس كذلك النساء تتزاور مع بعضها.
ويضيف الملحة ايضا بانك عندما تخرج الى السوق تجد انطباعا او صورة للسوق تختلف عن بقية الايام حيث تجد اكثر المحلات تتاخر بعد منتصف الليل وتجد انواع الحلوى والماكولات الاخرى والمشروبات والعصائر، وحتى الذي اعتاد الا يبقى الى وقت متأخر ففي شهر رمضان يكون له ديدن اخر فهو يجامل او يساير الاخرين بهذه المناسبة الايمانية العطرة.
ويبين الدكتور الحكيم ان الفرد النجفي يقضي ليالي القدر بالاعتكاف اما في مسجد الكوفة او يكون في مرقد الامام علي او في مسجد من المساجد على اعتبار ان هذه ليلة ذات فضل لأنها نزل بها القرآن وكان لها موقعها في هذا الجانب.

المجالس العلمية والأدبية ومجالس الوعظ والإرشاد
وحول المجالس العلمية والادبية فيؤكد الدكتور حسن الحكيم بان المجالس النجفية على صنفين: مجالس علمية تقوم بها المرجعية من جانب او رجال الدين والوجهاء المعروفون والصنف الاخر المجالس الاجتماعية ويقوم بها الوجهاء والذين لهم مواقع اجتماعية كبيرة فنجد في هذه المجالس تلاقح الافكار بين رجال الدين وبين الكسبة، وقد يزور الفرد اكثر من مجلس في الليلة الواحدة وتقام الندوات العلمية والادبية وهذه كانت موجودة في الجمعيات والنوادي والمؤسسات وحتى في البيوت.
اما الامسيات والمجالس الرمضانية قديما فيشير محمد علي ظاهر الملحة الى ان في مجالس رمضان توجد فوائد ومميزات اذ ان هناك بعض الناس الفقراء عندما يلتقون بالآخرين في هذه المجالس يبدي بعض الأسخياء تعاطفهم معهم فتكون ساعة للرحمة والشفقة على عباد الله الضعفاء، وتكون اللقاءات في هذه المجالس وسيلة صلح وتقارب بين بعض المتخاصمين، ولا يقتصر اللقاء في رمضان بأبناء المحلة الواحدة فقد يمتد التواصل بين ابناء الاطراف الاربعة على اعتبار ان النجف فيها اطراف اربعة هي البراق والعمارة والمشراق والحويش وفي شهر رمضان يبدأ التحرك من طرف الى طرف اخر وتشعر ان النجف الأشرف كأنها أسرة واحدة.وفضلا عن هذا التواصل الاجتماعي فبهذه المجالس يلتقي الفرد بمجاميع من الناس من مختلف الطبقات وتثار ايضا مسائل فقهية أو اجتماعية أو سياسية .
وهنا ايضا يستحضر الملحة ذاكرته فيبين ان المجالس النجفية تمتاز عن غيرها في شهر رمضان عندما ياخذ المجلس مدى معين في اول وقته بالوقار والهدوء بعد ذلك ينسل الناس وتبقى النخبة القليلة الوثيقة الصلة ليكون الانفتاح اكثر فتسمع الطرفة والنكتة كذلك تطرح بعض المسائل الفقهية والادبية والسياسية ويبدأ التحاور بين الناس ونحن كنا صغاراً قد لانفهم بعض ما يطرح من شعر او تاريخ او حكم ولكنها عندما ترسخ في الذهن بعد سنين تجد فيها من الطعم واللذة ما لا نظير لها، ومثال على تلك المواقف، كان احدهم يشكو كيف اموره تغيرت وكان يمهتن مهنة معينة فيقول:
وكانت الابرة فيما مضى                 صائنة وجهي واشعاري
فأصبح الرزق بها ضيقا                  كأنه من ثقبها جاري
وهنا عندما تسأل ما كان يعمل هذا القائل فيكون الرد انه كان روافا يصور رزقه، وكذلك ياتي احدهم فيقول:
يا ساكنا قلبي المعنَّى              وليس فيه سواك ثاني
لأي أمر كسرت قلبي                وما التقى به ساكنان
ويشير ايضا الحكيم انه كان يجرى في المجالس الأدبية والفكرية التواصل الشعري أي المطاردة الشعرية وهذه ايضا قدرة ادبية تميز بها أهل النجف الأشرف لطبيعة مكانتها الشاعرية والأدبية والعلمية والدينية.

السفرة الرمضانية وتنوع الأكلات فيها
ومن العادات والتقاليد يوضح الملحة الاستعداد لتهيئة السفرة الرمضانية بقوله اذا اخذنا رمضان قبل نصف قرن او اكثر فاننا نجده يختلف من حيث المكان والزمان فاذا اتينا الى المكان وهي مدينة النجف الأشرف فنجدها آنذاك عبارة عن اربعة اطراف والنجف كانت كلها بمثابة حي واحد وهذا يعني ان البيوت كانت متداخلة مع بعضها البعض حتى ان الازقة ضيقة لا تزيد عن نصف متر عرضا بحيث انك اذا مررت بزقاق من الازقة تشعر بالضيق، فلما كانت البيوت متداخلة مع بعضها البعض والابواب ان لم تكن متهرئة فهي شبه متهرئة وما اريد قوله ان الانسان عندما كان يمر وخاصة في شهر رمضان وبعد الظهر يشم من خلال البيوت ماذا تطبخ من اطعمة للفطور وكانت حالة البيوت تستعد للطهي بعد الظهر مباشرة او قبيل المغرب، والملاحظ على البيوت آنذاك ان أكثرهم فقراء كثير منهم لا يطبخ الا نوعا واحدا من الطعام ولكن عندما يأتي وقت الافطار اي وقت الاذان يجد الانسان في السفرة وقد امتدت وضمت اكثر من نوع من هذه الاطعمة والاشربة واذا سالت عن هذه الاطعمة والاشربة ومصدرها فيجيبك من في البيت ان هذا من بيت فلان وتلك من بيت علان، اي ان هناك تكافلا اجتماعيا بينهم وكان يطعم بعضهم بعضا وحتى يستطيع الفقير ان يحصل على افضل الطعام نتيجة التداخل والتحابب بين الاخرين.
ويقدم الدكتور الحكيم تفاصيل اكثر حول السفرة الرمضانية فيبين ان الولائم كانت تقام على عدد كبير من الصائمين وتستخدم السفرة لتوزيع الاطعمة عليها، وكثير من الناس الذين لهم علاقات خارج النجف يأتون اليهم للافطار او للبقاء الى وقت السحور مثلا وهذا قائم إلى الآن والاكلات النجفية ايضا لها نكهتها ومنها تمن الماش والتاجينة والفسنجون والدولمة والسبزي والقيمة وغيرها، لذلك يمكن ان اقول ان المائدة النجفية متعددة الجوانب من باب تقديم افضل الاطعمة للصائم ولاننسى الطرشي بانواعه وكذلك الحلويات كحلاوة الحنطة او الحليب والدهين فهي مميزة وتناولها يكاد يكون يوميا مع السفرة الرمضانية التي لابد منها واعتاد النجفيون ايضا استخدام الشوربة في مقدمة الفطور.
ويشير الحكيم ايضا ان من العادات الاجتماعية لأهالي المدينة هي الايقاظ وقت السحور فيستخدم البعض الطبول لتنبيه الناس اضافة الى المساحات والحسينيات وما يتلى فيها وهذه قائمة الى يومنا هذا ولذلك حينما تفتي المرجعية بالعيد يجوب هؤلاء الشوارع للإعلام بيوم العيد وأن شهر رمضان قد انتهى.
إحياء المناسبات الدينية التي تتخلل الشهر
ومن عادات النجفيين احياء المناسبات التي تتخلل هذا الشهر الفضيل فيوضح الدكتور الحكيم بان المناسبات لا شك انها تأخذ مجالا اجتماعيا كبيرا وتشارك كل فئات المجتمع النجفي فيها فالمناسبة الاولى هي مولد الامام الحسن وفي ليلة مولده عليه السلام عادةً نجفية تسمى الماجينة فنرى الصبيان وهم يقرعون الطبول ويجوبون الازقة وينشدون الاناشيد وتقدم لهم الهدايا والحلويات بهذه المناسبة الدينية لهذا المولد الكبير وكانوا يرددون عبارة «لو لا الحسن ماجينه» وهذه العبارة اصبحت شائعة لدى المجتمع النجفي، اما بعد هذه المناسبة فتبدأ مناسبة حزينة وهي ذكرى استشهاد امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام بدء من ليلة التاسع عشر من رمضان الى ليلة الواحد والعشرين من هذا الشهر وهذه الليالي يمكن ان تأخذ مظاهر عديدة فالمظهر الاول ان ترفع الاعلام السوداء في المدينة واللافتات للتعبير عن الحزن وتقام المآتم في ليلة استشهاد الامام علي عليه السلام والتي لها رونقها الخاص فينشد الشعر وتلقى بحوث بهذه المناسبة، وكانت جمعية منتدى النشر تقيم اسبوع الامامة اي بعد مضي سبعة ايام على الاستشهاد تقام احتفالية يسمونها اسبوع الامامة وبعد الغاء الجمعية تعطلت هذه الفعالية.

الجوانب الدينية ومراسيم العبادة
يقول الدكتور الحكيم كانت الناس تتجمع وانا رأيت بعيني ليلة الفطر اصحاب الطبول الذين يوقضون الناس للافطار يقفون بباب السيد محسن الحكيم(قدس) سابقا وبعده السيد أبو القاسم الخوئي(قدس) ينتظرون الاشارة اذا حكم السيد تبدا الطبول بالضرب وتنتشر بالمدينة وبنص العبارة التي يفتي بها المرجع الديني، واليوم على نفس هذه الحالة يتجمع الناس امام مكتب السيد السيستاني (دام ظله) وبقية المراجع ويؤدون نفس الكلام، واليوم اصبح من السهولة نشر الخبر من خلال الموبايل والوسائل المختلفة فالعالم الشيعي لا زال ينتظر من النجف الأشرف ما يصدر من المرجعية، وكان اهالي النجف هم المرسال بين العالم وبين المرجعية لنقل ما يصدر عنها بهذا المجال .
اما الاستاذ في جامعة النجف الدينية السيد محمد الحبوبي فيوضح بان الحديث عن الاماسي الرمضانية لمدينة النجف الاشرف هي فيه ركيزتان اساسيتان، الاولى الحوزة العلمية التي هي في جوار علي عليه السلام والثانية نفس الحرم المقدس للامام علي عليه السلام، اما المنحى الثاني باعتبار علو منزلة الامام المعصوم وانه محط رحال كثير من أفئدة المؤمنين، بل لجميع المحتاجين وطالبي النسمات الروحية، وان شهر رمضان في الحرم العلوي له اثر ما بعده اثر في نفوس المؤمنين وتلك الادعية وتلك الحشود التي تأتي لزيارة امير المؤمنين ويتم ذلك من خلال برامج للعتبة العلوية باقامة جلسات ختمة وتلاوة القران بالاضافة الى حلقات التوجيه الديني والتوجيه الاخلاقي وعلى الصعيدين من الذكور والاناث، فتجد ان الزائر الكريم وبالخصوص من اطراف مدينة النجف الأشرف سواء من الكوفة او المشخاب او الحيدرية او ابو صخير بل حتى من كربلاء وبابل والديوانية هؤلاء بالخصوص, يأتون ان لم يكن في كل ليلة فلا يخلو في الاسبوع ليلة او ليلتان لا لشيء سوى للدعاء والابتهال ولتنسم تلك النفحات الروحانية بجوار الامام علي عليه السلام واستحضار تلك البطولات الرائعة للامام والتي تعيش في قلب كل موالي وانسان غيور، اما المنحى الآخر وهو الحوزة فترى الاماسي الرمضانية، وان مكاتب العلماء والمراجع يتغير توقيت عملها في الشهر لفتح الابواب للمقلدين والسائلين الى ما بعد الافطار والى ساعة تقترب من منتصف الليل كأن تكون الحادية عشر ليلا او اكثر من ذلك اذا كانت هناك كثرة سائلين.
ويشير الحبوبي الى دور المبلغ الرسالي في شهر رمضان من خلال قوله بان هذا المنحى تجده للمرجعية ولغير المرجعية مثل العتبة العلوية والحسينية والعباسية فانها تتصدى لمشروع التبليغ وارسال المبلغين واما المرجعيات فيبعثون المبلغين وبنسب متفاوتة والشاغل الاساس للمرجعية في بعث المبلغين ان يعكسوا الصوت الحقيقي لها فيرسلونهم للمناطق الني لا يصل لها صوت المرجعية والى القرى والارياف واما سابقا فتجد الثقل الاكبر على المبلغ، ونذكر مرجعية السيد الحكيم (قدس) اذ كانت مسالة اساسية وليس التبليغ فقط بل انشاء المكتبات العامة في الكثير من المدن ونواحي العراق فليس الحس التبليغي فقط وانما الحس الثقافي والاجتماعي والحس التوعوي فعندما تجد مكتبة في منطقة ريفية وبعيدة عن مركز الاشعاع في النجف الأشرف والحوزة تجد الاطمئنان يسود القلوب.

نشرت في الولاية العدد 106

مقالات ذات صله