الإمام الصادق عليه السلام مدرسة الفكر الخالدة

حمود الصراف

تنحني البشرية تعظيما واجلالا لما قدم الامام الهمام ابي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في مجال الفكر والمعرفة والأصعدة كافة فكان منار الهدى ومصباح الدين الذي انتشر ضوء الإسلام في أصقاع المعمورة من وقته وإلى اليوم، وتخرج من مدرسته الرواة والمحدثون والمتكلمون من العامة والخاصة، واستقى منه العلم أربعة آلاف أو أكثر مع وفرة العلماء في عصره لما يحمل من العلوم والعطاء الثر في العلوم كافة.

ولادته
ولد الإمام الصادق عليه السلام في المدينة المنورة يوم الأثنين في السابع عشر من شهر ربيع الأول، وهو اليوم الذي وُلد فيه جده النبي (ص)، وكانت ولادة الإمام (عليه السلام) سنة ثلاثة وثمانين من الهجرة النبوية المباركة، وقيل سنة ثمانين للهجرة.

كنيته وألقابه
كنيته أبو عبد الله.. ومن اشهر القابه الصادق.. عاش خمساً وستين سنة على المشهور، أقام مع جده الإمام زين العابدين(عليه السلام) أثنتي عشرة سنة، وبعده مع والده الإمام محمد الباقر(عليه السلام) تسع عشرة سنة، وبعده في إمامته وخلافته أربعاً وثلاثين سنة .

من سيرته الشريفة:
عاصر (عليه السلام) سبعة من الطواغيت، خمسة من الأمويين اولهم هشام بن عبدالملك وبعده الوليد بن يزيد بن عبد الملك ثم إبن عمه يزيد بن الوليد وأخيه إبراهيم ابن الوليد ثم أبن عم أبيهما مروان بن محمد المعروف بالحمار الذي كان اخر ملوك بني امية، وأثنان من بني العباس وأولهما أبو العباس الملقب بالسفاح لجوره وظلمه وكثرة ما سفك من دم، اما الثاني فهو أبو جعفر المنصور الملقب بالدوانيقي.
عاش الإمام الصادق (عليه السلام) كأبيه الباقر (عليه السلام) في زمن كان الصراع قويا بين الحكام الأمويين والعباسيين، وفي هذه الفترة انشغل الحكام بالحكم، وانصرفوا بعض الشيء عن التعرض للموالين لاهل البيت عليهم السلام فاستغل الامام هذه الفرصة لنشر أحكام الدين وعلوم أهل البيت.
وفي هذه الفترة صار الشيعة وأئمتهم في أحسن حال ولذلك ترى ان معظم أحكام الرسول وأخبار الشيعة مروية على لسان الإماميين المعصومين محمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) اللذين عاصرا حقبة الصراع السياسي والعسكري في اواخر العهد الأموي وأوائل العصر العباسي.

الامامة
تصدى للامامة بعد ابيه عليهما السلام سنة 114هـ، وبدا مشوار الصلاح والاصلاح في الاصعدة كافة وبيان معالم الدين واصوله.
جاهد عليه السلام في نشر القيم والمفاهيم الإسلامية وبناء تيار شعبي عام في الامة وركز على بناء الجماعة الصالحة التي تسير على نهج ال البيت عليهم السلام والاشراف عليها وتنظيم عملها في مواجهة الانحراف والفساد، الانحراف المتمثل بالسلطة الحاكمة والانحراف الفكري والعقائدي .. وواجه التحريف والاستغلال السياسي للقران ومفاهيمه .. وايضا واستمراره في بناء ما اسسه ابيه الباقر عليه السلام.

جامعة اهل البيت عليهم السلام
طوّر عليه السلام جامعة اهل البيت عليهم السلام التي اسسها ابوه الباقر ونشرها في افاق اوسع وكان روادها من الطوائف والملل المختلفة فهي منفتحة لم تكن منغلقة، وكذلك انفتحت على فروع المعرفة الاسلامية والانسانية كافة، وهي ذات منهج سليم اعتمدت الفكر والتعمق والاصالة ونمو الكفاءات العلمية والتوعية الدينية للناس.
اتسعت هذه المدرسة وكان لها فروع في الكوفة والبصرة ومصر.. وقد اتسمت بانها مرتبطة بمصدري التشريع والمعرفة الا وهما القران الكريم والسنة النبوية الشريفة.
حقق الامام جعفر الصادق عليه افضل الصلاة والسلام من خلال المدرسة انجازات عديدة عظيمة ومنها تدوين الحديث والحفاظ على مضمونه، لقد انمت هذه المدرسة الفكر الاسلامي وطوّرته.

مقامه العلمي ومحاججاته
في المدينة انطلق الفقه الإسلامي إلى العراق والإمام جعفر الصادق عليه السلام في مجلسه كان معينا لا ينضب يروي السنة عن آبائه وما يقول يجري مجرى الأصول، فجاءه المناظرون من كل حدب وصوب والتلاميذ الفقهاء الذين يملأون أقطار ويجادلون الأصول أو الفروع، فكان البحر الزاخر الذي لا تستنزفه الآلاء، يروى العقول ويشفي الصدور، فالديصاني زعيم فرقة ملحدة وصاحب الأهليجة طبيب هندي وعبد الكريم ابن العوجاء الملحد وعبد الملك مصري الذي تزندق وعمر بن عبيد شيخ المعتزلة وأبو حنيفة إمام الكوفة ومالك إمام المدينة وسفيان الثوري وغيرهم له مجادلات كثيرة معهم، إذ كان لا يتضايق من الأسئلة بل يفهمهم ويضرب لهم الأمثلة بمسلكه واتساع صدره على الحرية الفكرية التي يتيحها عليه السلام للناس في مجلسه ليتفهموا العلم أو ليؤمنوا عن فهم من دون إكراه، وكانت هذه من أسباب نشر الإسلام وخلود فقهه.
ملا الأفاق بعلمه وفكره وبصيرته النافذة فهو ثاني من قال بعد جده الإمام علي بن أبي طالب عيه السلام: (سلوني قبل ان تفقدوني فانه لا يحدثنكم احد بعدي بمثل حديثي)، وقال: (والله إني لأعلم كتاب الله أوله الى آخره كأنه في كفي ففيه خبر السماء وخبر الارض وخبر ما هو كائن، قال الله عز وجل (فيه تبيان كل شيء).
بلغ عدد تلامذته اكثر من اربعة الاف، ارتووا منه العلوم والمعرفة واشاعوا العلم والثقافة الى العالم في اغلب امصاره.
كان عدد كبير من أعلام الفقهاء والصوفية يفتخرون بالنقل عنه، أمثال أبي يزيد ومالك والشافعي وابن جريح وابراهيم بن ادهم ومالك ابن دينار، بل أن مالك بن أنس كان يقول ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق (عليه السلام) فضلاً وعلماً وورعاً وعبادة.

من وصيته لولده الكاظم عليه السلام
روي عن الصادق عليه السلام انه قال لابنه الكاظم عليه السلام: يا بني إنه من رضي بما قسم له استغنى ومن مد عينه إلى ما في يد غيره مات فقيرا و من لم يرض بما قسم الله له عز وجل أتهم الله في قضائه ومن استصغر زلة نفسه استعظم زلة غيره ومن استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه.
يا بني من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته ومن سل سيف البغي قتل به ومن احتفر لأخيه بئرا سقط فيها ومن دخل السفهاء حقر ومن خالط العلماء وقر ومن دخل مداخل السوء اتهم، يا بني إياك أن تزري بالرجال فيزري بك وإياك الدخول فيما لا يعنيك فتذل لذلك.

نشرت في الولاية العدد 107

مقالات ذات صله