حركة تاريخ الابداع تحت ظلال متغير الواقع الانساني

شاكر القزويني

يتوارد في ذهن المرء تساؤل ملح عن مدى حاجته الى الأدب كوسيلة معبرة وملبية لرغبات المرء ودوافعه الانسانية، أو قد يلح سؤال عن كيفية حمل وولادة هذه الكينونة الماثلة امامه كفعل أو حس انساني وما هي سبل مخاضاتها لتلتحق بالوجود في أطر تختلف في كل زمان ومكان أو قد تأخذ شكلا له ديمومة تكاد تبلغ الخلود.

عالم خارق للطبيعة
قد يكون هذا الكائن الحسي والمعنوي المرافق للإنسان منذ بداية وضع قدمه على الأرض يتمثل حركة أو فعلا ما، قد يتجسد طقوسا دينية أو سحرا، يعبر عنها رقصا أو غناءً أو رموزا محفورة يتحكم في ايقاعات ضبطها أديبهم أو مبدعهم آنذاك متلمسا بل وقابضا على هواجس وقلق وانفعالات ابن ذلك العصر البدائي ( معرفة وفنا )، سوى انها تجسدت أو عُبِّر عنها بشكل عملي عفوي خالي من التعقيد نابض بالحياة القادرة على فعل ما لا يمكن انجازه في حركة الواقع الفعلي، فهي المنجز غير التقليدي لإحداث الأثر عبر السحر والعمل الخارق.
وترى «دانال.فوكس Danal . Fox» أن البدائى لم يتصور عالمه الطبيعى جامدا صامتا، بل تصوره حيا مدركا، وبثت النظرة الأسطورية فى الطبيعة (إنسانية) تعي، وتفعل، وتؤثر. ويتبدى سحر الكلمة وقوة تأثيرها فى الفهم الأسطوري للعالم عند البدائيين، فلم تكن الكلمة فى ذلك الفهم أداة صياغة لذلك العالم فحسب، بل كانت تمكن من السيطرة عليه والتحكم والتأثير فيه، لقد كانت الكلمة تعاويذ ورقى: تشفى من مرض، وتحمى من ضرر، تجلب سعدا، وتبطل نحسا، تنصر حليفا، وتهزم عدوا، تنزل مطرا وتوقف سيلا..إلخ»

حركة الواقع وديمومة الصراع
وبما ان النتاج الأدبي والفني هو خلاصة العلاقة بين المرء والواقع الذي يعيشه أو يتأثر به، لذا كان حتما أن يكون ذلك النتاج متغيرا ومتحولا حسب ذلك الواقع الذي من يتملكه من بديهة ان الواقع لا يقف عند حال وصورة. لذلك كان للإبداع بشتى مشاربه تاريخا كتاريخ الأنسان فيه تقلبات وتغيرات ملامحه وطرقه التي تحركت بين شد وجذب وصعود وهبوط حتى بانت في كل حقبة زمنية بمبتنى ومذهب يختلف عن حقبة وزمن آخر، متأخرا بواقعهم وعالمهم وما يتخذه من علاقات وابعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية … الخ، فكان هناك تطور ملحوظ وحتمي لشكل الإبداع وجوهره منذ بدائية تلك المجتمعات وليومنا هذا الذي عبر مراحلا طويلة من النظم والعلاقات التي حكمت البشرية، كالمشاعية والعبودية والاقطاعية والاسلامية والرأسمالية والشيوعية والليبرالية، وان صنفت حسب الباحثين على انها ثلاث فحسب ـ العبودي والاقطاعي والرأسمالي لطغيان التحليل التاريخي الديالكتيكي الاقتصادي في تفسير حركة التاريخ ـ محققة بذلك التحول والنمو، من جانبها، تطورا هائلا في شكلها وفي أدواتها وطرائقها، في تداخل عضوي بين ذاك الصراع الانساني في هذه الأنظمة والذي طغى عليه الصراع الطبقي المتحكم به شكل ونظام ملكية أدوات الانتاج التي فرضت قوانين استغلالها من موقع هذه الملكية وأحقيتها في القهر والاستغلال والاستعباد للشريحة المنتجة ـ عبيدا وفلاحين وعمال ـ هذا الصراع الطبقي الذي أعطى حقيقة التناقض الجوهري ما بين الأنسان في كل معاني وجوده مع الملكية الخاصة المستولية عليه وعلى حقوقه التي تحقق انسانيته وانتمائه الذي استولت عليه تلك الملكية النهمة البشعة، مما استدعى حضور دوي صرخة هذا الصراع تمردا طورا وتوسلا طورا آخر، من خلال ذلك المعبّر الغائر في جوهر الانسان واحساسيه وحاجاته الملحة، فنا وأدبا وفكرا مبدعا.

يوتوبيا العالم الحالم
لذا خرج ذلك الفصام بين الواقع والحاجة الانسانية عبر خيالات تقيم أحيانا مدنا فاضلة وجمهوريات سعيدة وجزائر عليها جنان دلمون، تتحقق فيها حياة مفقودة فيها العدل والانصاف والرفاه والسلام، فكانت نتاج فكر «أفلاطون Plato حوالى 427-347 ق.م» في جمهوريته الفاضلة، كما كانت (مدينة الله) التى رسمها «القديس أوغسطين Saint Augustine 354م-430م» كنموذج للفلاسفة والمفكرين ثاني. كذلك فعل السير «توماس مور Sir Thomas More» (1478م-1525م) الذى وضع كتابه (اليوتوبيا) أو المدينة الفاضلة، على جزيرة يحقق فيه نظاما اجتماعيا حالما في الخير والسلام الذي تخيله. ثم أتت بعده (مدينة الشمس) للقس والشاعر الايطالى «توماس كامبانيللا Tommaso Campanella»، و(أطلانطا الجديدة) لفرنسيس بيكون Francis Bacon (1561م -1626م).
وقد كانت أغلب هذه التجارب الفكرية التي سرحت في يوتوبيا أحلامهم غير الواقعية الحضور قد ناصبت العداء للملكية الخاصة مبينة انها أصل الشر وسفك دماء وظلم بني البشر.
ومن هنا كان لا بد من حضور للانسان في هذا النتاج الانساني فنا وادبا وفكرا متمثلا ومتأبطا شكلا مختلفا في كل حقبة تاريخية عن الأخرى، فكان بطلا جبارا قريبا للآلهة خارقا وقادرا على قهر الطبيعة ومكرها وكل تهديداتها وذلك في ظل حقبة النظام العبودي، وكان حضور هذا الانسان بطلا عادلا ذو مثل عليا واخلاق فاضلة وشجاعة فذة يسعى لتحرير وانصاف اولئك الأقنان الجائعون والفلاحين المحرومون من ابسط حقوقهم، فهو المنقذ الذي يسعى للملمة حياة البؤس التي يعيشها هؤلاء اليائسون ليمنحهم حد مقبول من الكرامة والشبع يحلمون به.

الأحاسيس العابرة للقارات
وفي عصر يحكمه المال والأرقام والصورة الدقيقة التفاصيل، حيث تحفر الأحاسيس واقعها الحسي كما يحفر الإزميل بالصخر الأصم، أي في هذا الواقع الواضح والصريح الذي هجر الوهم وأخذ يتلمس الأشياء كما هي وبمسبباتها الحقيقية والعلمية وحيث يكون العقل حاكما وسيدا مطلق السلطة والنفوذ، لا مندوحة فيه لخرافة واساطير البدائيين الا للتسلية واللعب، ولا أبطال خارقون الا من امتلك معدات تسليح مدمرة عابرة للقارات وبوارج تحمل قاذفات تحرق الأخضر واليابس بلا رحمة وهوادة، فاليوم تطغى العلوم على الآداب لأنها المحرك الأساسي للحياة وسبل نجاتها، لذا كان من العسير ان يجاري أدباء وفنانوا عصرنا هذا من سبقوهم في حدة الاحساس ورهافته وعذريته وتلقائيته وبراءته، فلا الشعراء اليوم بقادرين على إتيان ما أتته الثكالى شعرا ولا الغزل بما توهج ماءه وحيث سال فروى ولا فخرا ولا هجاء ولا حكمة كالتي أتى بها أولئك الشعراء مثلا.

الإيمان والإنسان وقيمه الحرة
لذلك لا بد من ظهور نتاج فني وادبي قادر على التعبير عن هذا العصر، عن انسان داخل ماكينة تتلاقفه بكراتها المسننة وتصهره مراجلها ويحرقه وقودها الحامي، انسان مبدع قادر على امتطاء ارادة عصره المشدود بكل قسوة التاريخ وعنفوان الحاضر، انسان يسعى للحرية المطلقة من الجمود والخرافة وكل الظلال الجاثمة على العقل والخلق والقلب، انسان يرى العالم من منظور انساني خارق للقيود والقلاع القديمة الرؤى والأباطيل القبيحة المنطلق والغاية، انسان مبدع حر الاعتناق والخطى، قوي الايمان واثق من عزة اعتناقه ومنجاته حين يكون الصلاح غائية والفضيلة موردا، فيكون بناء الانسان وخلاصه سبيلا وهدفا للنجاة، انسان مبدع قادر على التحليق بأجنحة كونية تبحث عن اجابات أوسع من أزماته لتعطي اجابات عن حلول، وترسم طرق عن منافذ للخروج من ظلام دامس بديجور قنم الى شمس تتلمس بني الانسان برفق ورحمة لتحملهم على زوارقها في انهر الأمل والمستقبل السعيد الآمن.

نشرت في الولاية العدد 108

مقالات ذات صله