الامام الحسين عليه السلام موسوعة الإصلاح

 

السيد فاروق ابو العبرة

نهضة الامام الحسين عليه السلام لا تمثل واقعة الطف فحسب، وانما هذه المعركة الفاصلة كانت خلاصة لجهود الأنبياء والمرسلين في اهدافهم ومناهجهم، من ادم ونوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله) والى جميع الاحداث التي عملت على مستوى التغيير في المجتمعات.

وضمن هذا المخطط كان الامام الحسين عليه السلام حمل المسؤولية والوراثة الطبيعية لأؤلئك الأولياء في الأرض، فأمتد صداه من عمق الزمان في سلسلة ربط فيها الماضي بالحاضر، فما كان الا ان وهب نفسه للأمة شهيداً بطريقة اقشعرت لها الأبدان وانزعجت منها الانسانية، حين اعترض على الظلم واراد قيادة حركة الاصلاح الديني والانساني والاخلاقي والعودة بالمجتمع الى صفات كانت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وعندما قال: (أنما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي محمد صلى الله عليه وآله) قوبل بالقتل، فأعطى للمجتمع الإسلامي مستوى من الشد التربوي وعمقاً من الجذب المعنوي، وعلم روحي له الفداء ان الامر لا يتحقق الا بإيجاد طريقة يهز بها المشاعر والظمائر، ويحقق وعي عام يخلد ويمتد مع الزمن، ويتطور في قلب كل عصر مع كل ذكرى.. ألا وهي مأساة الطف الأليمة في كربلاء.
فتلك الواقعة المروعة قبلاً كانت حاضرة في علم الإمام الحسين عليه السلام، وكان طائعاً مختاراً للمصير الذي ينتظره، وهو يعلم مستسلماً لقدره، وقال في أول خطبة له عليه السلام: (وخيّر لي مصرع انا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني اكراشاً جوفاً واجرية سغباً لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا اجور الصابرين) وأشار بخطبته الى الترابط بين محنته ومحن بعض الأنبياء وقال: (ان من هوان الدنيا على الله ان رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام اهدى الى بغي من بغايا بني اسرائيل) فأراد اعطاء فكرة أن رأسه الشريف سيجري عليه ما جرى على رأس يحيى عليه السلام سيهدى الى الباغي يزيد.
الحكمة من حركته:
الحكمة من وراء حركة الامام الحسين عليه السلام انه اعطى زخماً واشعل فتيل يتوقد منه الايمان وأيقظ ضمائر كادت تموت، وأعادت قضيته تفكير الانسان المسلم بنفسه، لئلا يترك لعقيدة مزيفة مبتدعة مليئة بالشوائب والمصالح الذاتية، لأن في التاريخ الاسلامي ما سوّد وجه الحقيقة ووضع فيه ما نسب الى الاسلام وبدلوا وحجبوا حقائق واحرقوا الكثير من النصوص التي لها مساس بعقائد الناس والمسلمين .
فأراد الامام الحسين عليه السلام تغيير هذا الواقع بحركة من المجتمع، هم بأنفسهم الا يبقوا متفرجين متخلفين تحت وطأة الفاسدين واعلامهم الذي استثمر الواقع الاسلامي برمته لمآربهم، فالأمور ضبابية اصبحت امام الأمة، ولو علم المسلمون بحقيقة النكبة وما جرى من مأساة الاستغلال لاسم الدين، وانهم غيروا من مفاصل الأخلاق والمبادئ الاسلامية لاندفعوا لمعالجة الآلام التي تنتظرهم.
من هذه النقطة وعظ الامام الحسين عليه السلام الناس، ودفعهم الى التفكير بجدية في طريقة لإعادة اسلامهم، فاعترض على الاستسلام لأفكار واعمال بني مروان وأمية وبني العباس وثار على مناهجهم التي هي من تسويلات الشيطان الذي قال تعالى: (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) {الأعراف/16}.
إن الاصلاح الذي قاده الإمام الحسين عليه السلام اراد به احباط وتخريب تلك التصرفات ومنع ذلك المد الملعون، وايقاف حركة المضلين في سعيهم، وتدابيرهم المشتقة من الضغوط النفسية تجاه الدنيا، وهو قوله تعالى: (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى){طه/79}، فأدركنا ان نهضة الامام الحسين عليه السلام شأنها بناء دنيا فيها الحياة العادلة، تفضي الى حياة سعيدة ابدية في الآخرة بخلاف دنياهم المسنونة بأخطاء قامت على اساس من التحريف الكبير والزيف الكثير ينسبونه الى الإسلام، وهم واهمون فلا الدنيا تستقيم لهم ولا الآخرة.
وما كان من الإمام ليسكت او يصمت على ما يرى من ايهام المسلمين واضلالهم، ولديه من الأخبار المسبقة من جده رسول الله صلى الله عليه واله قوله (ان الخلافة محرمة على ال ابي سفيان وعلى الطلقاء وابناء الطلقاء، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه).

إيقاظ المجتمع من الغفلة:
الامام الحسين عليه السلام واجه مشكلة عدم قدرة الناس على التمييز بين الحق والباطل، ومن هو الامام الحقيقي ومن هو الخليفة الشرعي، بسبب الاعلام المضاد الذي اثر على مجتمع المسلمين، فصوروا ما لا يمكن للعقل قبوله، فمثلاً قالوا )أن من غلب وقهر واستحوذ على السلطة بالقوة وان كان فاسقاً غاصباً شارباً للخمر قاتلاً للنفس المحترمة يمكنه ان يشغل منصب خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله).
لقد اراد الامام الحسين عليه السلام من الأمة اعادة النظر في اطار العقيدة الصحيحة والتنبيه الى فداحة الجرم، وان تلك من تسويلات من غصب الحكم لصالحه، وكأنه عليه السلام يقول: فلا يمكنكم قبول البدع والوقوع تحت تأثير الأسر الفكري والخوف السلطوي، ولأنه لم يرَ أيه معالجة من المسلمين للتغير، برز يستنهضهم بدمه ويحركهم بالفداء ليلغي جبنهم ويعطيهم الجرأة وفاءً لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعمل في عباد الله بالأثم والعدوان فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله ان يدخله مدخله).

الحسين عليه السلام امام السلام:
ثورة الإمام الحسين عليه السلام لم تكن مسلحة، وإنما كانت ثورة اصلاح فكر وعقيدة وتصحيح مبادئ، اما القتال فقد فُرض على الإمام فرضاً، وهو عليه السلام كشف عن هذه الحقيقة بقوله :(إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة وبين الذلة وهيهات منّا الذلة).
فالطاغية يزيد لم يترك للإمام عليه السلام أي خيار آخر غير الحرب، فلهذا وإن كانت المواجهة عسكرية فهي مواجهة عقائدية بامتياز.

نهج الامام الحسين عليه السلام السياسي:
الإصلاح السياسي على رأس ما يصلح الناس لأن الشعوب على اديان سلاطينهم، ولما كانت المقدرات بيد الحاكم الجاهل المتهتك، فهو يحركهم كيف يشاء نحو الضلال، وعندما بلغ اسماع سيد الشهداء ان يزيد أصبح هو الخليفة على الأمة الإسلامية، قال عليه السلام:(على الاسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد) فهذا كافٍ ان يجعل الإمام الحسين عليه السلام يدخل في صراع مع السلطة الأموية، وواجه ضغوطهم بضغوط عدم المبايعة، فعكس رؤيته الشرعية للأمة ضد أعتى طغاة الأرض، واستخدم اسلوب الخطاب السياسي بالجهاد، بعد أن يأس من وعظ القوم وارشادهم بالعودة الى الاسلام الحقيقي فلم يتعظوا ولم يقبلوا منه الدعوة الى الحوار، ولم يبدأهم بقتال رعاية للصحوة والعودة الى الصراط المستقيم، الى ان شرعوا هم بالاعتداء، وهذا سرّ خلود واقعة الطف وتأكيداتها على ان الحركات الاصلاحية لا يقودها امثال يزيد، وانما يقودها الابرار الصالحون امثال الامام الحسين عليه السلام واصحابه.
والذي يقرأ التاريخ بعد الحادثة يرى مدى انتشار الصحوة في الامة الاسلامية، والانتصار العظيم الذي حققه الإمام على اساس فضح كفر الأمويين وخط دكتاتورية خلفائهم، وتلمس الناس ليس فقط كفر ونفاق هؤلاء فحسب، بل كل من حكم فيما بعد بغير ما انزله الله هو من صنف المنحرفين امثال يزيد.
من ذلك الحين تشكلت في المجتمع قضية متميزة لأحرار العالم، وهي الدعوة للوقوف مع الحق ضد الباطل، واصبح الحسين عليه السلام نبراساً لكل المترددين واسوة في البذل والعطاء تجاه استحقاق الحياة الابدية والذكر الخالد.

البراءة من اعداء الله:
الكفر والايمان لا بد ان نضع بينها خطاً احمراً، فالعداوة قائمة على التنافر الى يوم الدين، ولا يمكن جمعهما في قلب المسلم، ولكن بالإمكان جمع (التولي والتبري)، بل يجب على الموالي لأولياء الله البراءة من اعداء الله، وهو ما امتاز به الفكر الاسلامي عن باقي الأديان والحركات والنظريات الإصلاحية، فالمسلم الحقيقي يوالي المؤمنين ويوافق على ما قام به الامام الحسين عليه السلام في نهضته ويعادي الكافرين والمنافقين اعداء الدين من بني امية امثال يزيد على ما قام به من شناعة في اليوم العاشر من المحرم وامثال معاوية عندما حارب الخليفة الشرعي علي بن ابي طالب عليه السلام وقتل سبط النبي الامام الحسن عليه السلام، والامة الاسلامية لم تكن على قدر المسؤولية في ردودها تجاه اولئك فأضطر هو عليه السلام للوقوف بوجه النفاق وقال (الا ترون ان الحق لا يعمل به وان الباطل لا يتناهى عنه) وترك الباب مفتوحاً للأجيال مؤكدا ان عليهم في عقيدتهم ان يكتشفوا العناصر التي تسببت بالاختلاف الذين تطرفوا وجعلوا من التقاتل سنة في الامة.

نشرت في الولاية العدد 110

مقالات ذات صله