الموضوع الجمالي في العصر الصناعي

د.أحمد عبيد كاظم

جاءت التحولات الفكرية لملصقات ما بعد الحداثة رافضة للمبادئ المركزية المطلقة والمتعالية على الواقع ومشاكله، رافضة للمعايير الجمالية الكلاسيكية، إذ إن الفن لابد أن يحقق نوعاً من التوازن بين الكائن والبيأة، إذ لا يتوقف على مجرد التخيل والتأمل والتصور بل أن الموضوع الجمالي مكملٌ للموضوع الصناعي (الإنتاجي، التكنولوجي، الاستهلاكي) والبيئي، وفق ثقافة برغماتية قائمة على ركيزتين هما الدعاية والإعلام من جهة والاقتصاد والرأسمالية من جهة أخرى، إذ إن الإعلام ينظّر ويجمل التجربة الاقتصادية ويعطيها القيمة المادية التي يحفظ بها تحركها وتداولها واستثمارها.

الملصق البيئي
جاءت ملصقات الفن البيئي كما في الشكل ( 1 ) وفق جماليات تتناسب وروح المجتمع الصناعي المتطور, إذ أصبح فن الملصق هنا وسيلة تتوسط بين عنصري البيئة والصناعة, وسحب مفرداتها إلى مركز الإدراك والفكر والفعالية الثقافية والاهتمام الإنساني فالملصق البيئي بشكل خاص وسيلة لتفاعل الإنسان مع البيأة لإعادة ترتيب أوضاع البيأة بشكل يحقق الأمان والاستقرار في بيأة نظيفة والإيمان في التحولات التي يجب أن يحدثها في البيأة, هذا الحافز النفسي هو الأساس في الثقافة والتربية البرغماتية, ففي عام 1970 حذر العالم (جاي موراي ميتشل) عضو الاتحاد الجيوفيزيائي الأمريكي من ارتفاع مستويات التلوث التي يمكن أن تؤدي الى ظاهرة الاحتباس الحراري خلال السنوات القادمة, كذلك الفيضانات على نطاق واسع بسبب ذوبان الجليد في القطب الشمالي, فجاءت فكرة تأسيس مناسبة يوم الأرض قي 22 نيسان 1970, من قبل (جايلورد نيلسون) عضو مجلس الشيوخ الأمريكي من ولاية ويسكونسن, مدعوماً من قبل الجمهوريين والديمقراطيين, الفقراء والأغنياء, المزارعين ورجال الأعمال في المجتمع الأمريكي, وهكذا كان أنشاء وكالة حماية البيأة في الولايات المتحدة الأمريكية, وشاركه في هذا اليوم (20) مليون أمريكي دعماً لبيأة صحية مستدامة. فجاءت التحولات الجمالية بما يؤكد النظرية الشكلية ضمن رؤية جديدة حققت النسبية في الشكل والجمال, وفي دراسة تحليلية لملصق الفنان روبرت بروستر بعنوان يوم الأرض والعائد لوكالة البيئة الأمريكية (EPA ) شكل رقم ( 2 ) نجد استعارة صور فوتوغرافية في صياغة جديدة لها ذات وظيفة فكرية بتقنية الفوتومونتاج مع تحول وظيفي في الجانب النفعي من خلال تحقيق الدهشة والمتعة في الانجاز الفكري رافضاً الفصل بين الذاتي والموضوعي والفكرة والعمل الصناعي والجميل, ضمن ثقافة تربط بين الفن والحياة, رابطاً الأسباب (التلوث) بالنتائج (الاختناق) مكان توظيف الصورة الفوتوغرافية لشكل (الكرة الأرضية) و(قناع الغاز) كمفردات من عناصر العالم الواقعي في تأويل المعنى ضمن تداولية فنية لملصق يمكن تسويقه وتحقيق سرعة في انتشاره لفترة محددة خاصة بالمناسبة ثم الزوال بعد الاستهلاك, ضمن أسلوب هجيني تجريبي توفيقي مع دلالات ايقونية ودلالة رمزية تنبيهيه للفت نظر المتلقي ونقل معاني محددة إلى أذهان المشاهدين بمجرد رؤيتهم لرموز الملصق, وتحولات المعنى والمضمون جاءت باتجاه سيكولوجي مؤثر, إذ إن الجو العام للملصق ذي القيمة السوداء دلالة التلوث يتناغم وتشاؤمية وتدهور الواقع البيئي العالمي, وبعث رسالة تحذير بضرورة تدارك الأمر بأهمية الوعي البيئي على كل المستويات التعليمية والإعلامية والتخصصية في إيجاد القوانين والأنظمة الكفيلة بالحفاظ على الكائنات الحية وإدامة البيأة, وقد منح السيناتور نيلسون الوسام الرئاسي للحرية وهو أعلى وسام تكريم في الولايات المتحدة الأمريكية لدوره في تأسيس مناسبة يوم الأرض.

انقاذ كوكب الأرض
وفي ملصق آخر لمجموعة (زازال) للفن في مدينة سان خوزيه ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية بعنوان إنقاذ الكوكب يعد نتاجاً فكرياً يترجم الأفكار ويعبر عنها بوسائط وخامات ذات تقنية عالية, ضمن فن مفاهيمي قادر على توليد الأفكار وتأكيد الثقافة الاستهلاكية من خلال ظهور تمثلات الدعاية وتسويق الفن في الشكل والمضمون ومشاركة المتلقي قد تم تحقيقها من خلال مساهمة المتلقي في تأويل المعنى وتفسيره, وهنا المصمم يربط بين الفن والحياة من خلال استخدام عناصر ومفردات العالم الواقعي لاسيما الشجرة, كما في الشكل رقم (3) وإذا كانت البرغماتية تؤكد على إن الفن نشاطاً إنسانيا لا يخلو من المنفعة والتداولية, فالفن بنظرهم عملية فعل أو صناعة, فتوظيف شعار (اعادة التدوير) في الثقافة البرغماتية تمثل جماليات المستقبل لذائقة جديدة تتناسب وروح العصر الصناعي وطبيعة التحولات التعبيرية وصيرورة المجتمع الأمريكي, وهنا نقف كثيراً مع توظيف شعار (اعادة التدوير) وحجم أهميته في الإنتاج الصناعي إذ تم تصميم رمز إعادة التدوير الأصلي عام (1970) من قبل غاري أندرسون, من جامعة جنوب كاليفورنيا في ولاية لوس انجلوس. وقد حصل تقديمه إلى مؤتمر التصميم الدولي كجزء من مسابقة لطلاب المدارس والكليات والدراسات العليا, برعاية شركة الحاويات الأمريكية, وهي جزء من حملة نمو وعي المستهلك وحماية البيئة.

اعادة تدوير الحياة
ولعل الرغبة في الاندماج في الحياة اليومية قد طرح أسلوبا هندسيا تجريديا لعلامة تجارية تكمن قيمتها في تأثيرها في وعي المتلقي في إيجاد الحلول العملية لإعادة إحياء دورة الحياة, إذ لابد من تنبيه وتحذير المتلقي من عملية إعادة التدوير التي يجب أن تحصل وفق المعايير القياسية والقوانين ولوائح المنظمات الأمريكية والمنظمة الدولية للتوحيد القياسي, وبخاصة فيما يتعلق بتعبئة وتغليف المواد الكيماوية والصيدلانية وغيرها التي قد تحتوي على مواد مسرطنة…وهكذا فأن المفاهيم الجمالية البرغماتية المتمثلة بردم الهوة بين العلم والفن وآلياته المنظمة, وأن دلالات ما ذكر هو إن المستقبل لم يعد مخيفاً أو مجهولاً أو غارقاً في الظلام بل حافلاً بالأمل والحياة المتسقة مع أسس التربية البرغماتية والفكر الاجتماعي والثقافي الأمريكي المعاصر, فالملصق يحتوي على فعل الدهشة والإثارة, لأنها تعود بالنفع المادي والحسي على المتلقي بدل الاقتصار على إمكانية التأمل, فالمصمم البيئي ذو عقل واع يستطيع تحويل كل ما هو مهمش ومهمل من مواد في مناطق ملوثة أو مهجورة أو مستهلكة إلى شيء يمكن إعادة تدويره والاستفادة منه من خلال توظيف الرموز الصناعية القياسية المهنية ذات المعايير المتفق عليها, ليهدم الهوة بين الثقافة النخبوية والجماهيرية مسخراً في نتاجه العلم وتقنياته ومعاييره الحديثة, فجاء الملصق ضمن تحولات جمالية تؤكد أهمية الشكل ضمن رؤية جديدة وتحولات شكلية من خلال استعارة صورة الشجرة وتوظيفها في انتاج مفاهيمي جديد لخلق وعي اجتماعي يتمشى وروح العصر الصناعي التكنولوجي , ضمن تحولات دلالية ورمزية تكون العلاقة بين الدال والمدلول محض عرفية متفق عليها ضمن الكودات العلمية الصناعية للمنتجات المختلفة ضمن نشاط بيئي إذ نجد الدلالة الرمزية لـ(إعادة التدوير) قادرة على التنبيه إلى عالم الواقع اليومي واستثماره لتحقيق التحاور والتفاعل والتواصل التعبيري والوظيفي في الوصول إلى ذهن المتلقي, ونقل معاني محددة إلى أذهان المتلقين والمستهلكين بمجرد رؤيتهم للرمز خاصة والملصق يوظف تقنية الرسم والتصميم الرقمي بفعالية تامة. كما في الشكل رقم (4) .

نشرت في الولاية العدد 110

مقالات ذات صله