عليٌ.. الجرح الأول والأخير

رجاء محمد بيطار

باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله،… فزت ورب الكعبة !!!
وأقبل الحسنان نحو أبيهما , … كان المسجد قد ضجت جوانبه بالصراخ والعويل , وقد راح المصلون يتهافتون ويتسابقون للظفر بالمجرمين , الذين مالأوا على قتل أمير المؤمنين , وهم يكادون يمزقونهم إربا ً ويضرسونهم بأنيابهم الحانقة , ويمسكون بتلابيبهم بقبضاتهم وزفراتهم الخانقة !
… وظفروا به , ذاك اللعين في الأولين والآخرين , وأتَوا به إلى الإمام , الذي كان مستندا ً في مصلاه , يمسح الدم عن وجهه بيده , … لعل الإمام نظر إلى ارتعاد اللعين فرقا ً , فالتفت إلى أصحابه يوصيهم بالرفق به , حتى يقضي الله ما هو قاض ٍ !
تعجب الناس , وتميّزوا لشدة الغيظ , أن كيف يرفق الإمام بهذا اللعين الألعن , … ولكنه حلمه وعدله , … هو أمير المؤمنين , كان ولا يزال أميرا ً للمؤمنين !
… وصل الحسنان إلى الإمام باكيين منتحبين , أن كيف جرى ما جرى , كيف انتهكت حرمة الإسلام , وتهاوت دعائم الدين , واغتيلت آيات القرآن !
رباه , أنى يكون لهما الصبر بعد هذا الخطب المهول الذي لا يندرج الصبر في جملة عتقائه ؟!
… كان جعدة بن هبيرة , ابن أخت الإمام , قد قام مع جماعة من المصلين يشدون جرح الإمام ويبكون .
فلما وقع بصر الإمام على ولده الحسن (ع ) أمره أن يصلي بالناس .
كان صعبا ً على كل أحد , أن يلتف بمثل تلك السرعة على ألم بمثل ذلك العمق , ويستطيع أن يمتثل للوقوف للصلاة بتلك الجموع المنتحبة !
… ولكن الصبر هو ديدن آل محمد , وهما , الحسنان , سبطا الرسول , وابنا حيدر والبتول , بالأمس مضيا خلف أبيهما بعدما قُيّد وسحب على وجهه في أزقة المدينة , كيما تُنتزع منه البيعة غصبا ً, … بالأمس شاهدا أمهما الزهراء منطرحة خلف الباب تنزف دماؤها وقد كُسر ضلعها وأُسقط جنينها , بالأمس عاينا هضم حقها واغتصاب إرثها , واشتداد مرضها وحزنها وبكائها بعدما لاقته من هضم وعذاب , حتى التحقت بربها , … بالأمس مضيا خلف جنازتها يتساندان أحدهما على الآخر , ويسندان أباهما الثاكل , يكتمان عويلهما , وهما ابنا ثمان وسبع و يواكبان سرها إلى ذلك المثوى الأخير , ليبقى السر سرا ً إلى أن يشاء الباري ويفعل !
وإذا الحسن إمام الصابرين , قد امتثل لأمر أبيه وإمامه , فمسح دمعه والتقط آهاته , ووقف يؤم المصلين في صلاة لم تشهد مثلها الكوفة يوما ً بكاءً وأنينا ًوتعفير جبين , لا خشوعا ً فحسب , بل حزنا ً وفجيعة .
وقف الحسن حيث كان أبوه، و عند المحراب الذي ارتوى أديمه بدماء الأمير , أول أرض تتلقى أول قطرة دم يذرفها أول جرح لأول القوم إسلاما ً وأقدمهم إيمانا , … إنه الجرح الأول , … والأخير .
…. وصلى الأمير بإيماء من جلوس , وهو يمسح الدم عن وجهه وكريمته المباركة , ويميل تارة ويسكن أخرى !
مولاي يا أمير المؤمنين , … فيمَ كانت افكارك النورانية وخواطرك الملكوتية تجول في تلك اللحظات الصعبة العصيبة ؟!
هل كان الألم يشغلك وحرارة الجرح تطغى على حواسك ؟!
كلا وحاشَ , فما كان لألم مهما كان قدره ولا لجرح مهما كان غدره أن يشغل أمير المؤمنين عن مناجاة بارئه والذوبان في ربه وإلهه , ولعل تلك المناجاة الصامتة التي كانت تدور بين الأمير ورب الأكوان , كانت هي الأبلغ والأعمق منذ كان , فعندما يقترب العبد من معبوده , وهو في الأصل منه قريب , … حين يبلغ غاية القرب ومنتهى التواصل , حين تتقطع أسباب العلاقة مع هذه الدنيا , وهي في الأصل متقطعة واهية , وحين تبدأ رحلة العروج نحو عالم الخلود , بتلك اللحظة التي تفصل الحياة عن الموت , بل الحياة الفانية عن الحياة الباقية , حينها , يكون العبد قد بلغ سدرة المنتهى وصار قاب قوسين أو أدنى من المعبود , ولم تبقَ إلا خطوة واحدة , ليعانق الحبيب حبيبه في عناق أبدي لا انفصال بعده!

نشرت في الولاية العدد 117

مقالات ذات صله