غريب طوس .. الإمام الرضا عليه السلام

هو الإمام علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهم أفضل الصلاة والسلام)، من ألقابه الرضا والرضي والوفي، وهو الثامن من أئمة أهل البيت المعصومين، ولد في(11) ذي القعدة سنة(148)هـ.
عاش مع أبيه الإمام الكاظم(عليه السلام) في ظروف قاسية جداً، تعرض معه إلى القمع والملاحقة، ومن ثم سجن والده وحدثت أمام ناظريه تصفيته، في ذلك الجو المظلم استطاع الإمام الرضا(عليه السلام) المحافظة على نفسه وعلى أتباعه من أعاصير تلك الحوادث والفتن التي كان يمارسها هارون.
ولم يعلن عن إمامته إلا بعد أربع سنين من استشهاد والده طبقاً لوصية أبيه، فالظرف كان يستدعي الكتمان في القرارات والمواقف السياسية.
وبعد هلاك هارون تم تنصيب ابنه المأمون الذي حارب أخاه الأمين وقتله وقتل جمعاً كثيراً من العلماء والوجهاء والقادة، متفرغاً لانتفاضات العلويين المسلحة التي كانت انعكاساً لسياسة بني العباس الظالمة، من هنا لم يتمكن المأمون من إخماد ثوراتهم المتلاحقة وفكر باستدعاء الإمام الرضا(عليه السلام).
سياسة المأمون
خلفاء بني العباس كانوا يدركون عمق الارتباط بين أهل البيت(عليه السلام) والمسلمين، وحجم التعاطف بينهم فمن وسائل الضغط والخوف والخطورة بقاء الإمام الرضا(عليه السلام) بعيداً عن مركز الخلافة، فتبلورت لدى المأمون فكرة استدعائه من المدينة إلى خراسان، وإلزامه قبول ولاية العهد بالقوة ظناً أنه يهدئ الأوضاع المضطربة ويمتص غضب العلويين، وإعطاء شرعية لحكمه وحكم من سبقه من خلفاء الجور، ويخطّئ الشيعة في ادعاء غصب الخلافة من أهل البيت(عليه السلام)، ويوهن عقيدتهم ويضعف حجتهم تجاه من ظلمهم من الحكومات السابقة وينقض الأفكار السائدة بزهد الأئمة (عليه السلام) فيوضح للناس أنهم يطلبون مناصب الدنيا وزخارفها . وبإنفاذ مثل هذه الأمور الماكرة إلى المجتمع يكون قد أحرز أسباباً يأمن بها واخماد أي صوت معارض، وهذا التصرف من المأمون ما كان واضحاً للحاشية ومقربي البلاط ولم يفهموا أبعاد هذا المكر والدهاء إلا بعد حين.

ولاية العهد
بعد استدعاء الإمام الرضا(عليه السلام) إلى مقر حكم الحاكم انتشر جو من الرعب في المدينة على مصير الإمام (عليه السلام) ومن كلامه ودعائه وبكائه عند وداع جده رسول الله (صلى الله عليه واله)، فمراراً كان يرجع إلى القبر ويعلو صوته بالبكاء، شعر من حوله أن هذه رحلة النهاية، بخلاف ما كان يتصوره المأمون الإحسان إليه وتقريبه إلى البلاط، وفعلاً بمجرد وصوله إلى مرو طرح عليه قبول الخلافة التي لم يكن جاداً في التنازل عنها، فرفضها الإمام(عليه السلام)، ولكنه بالإكراه وتحت التهديد بالقتل قبل ولاية العهد بشرط (أن لا آمر ولا أنهي ولا أقضي ولا أغيّر شيئاً مما هو قائم وتعفيني من ذلك كله)، فمن الاسلوب العنيف كشف المأمون عن مصالحه وعن دوافعه الشخصية أن يتولى الإمام (عليه السلام) هذا المنصب قسراً، ولكنه بعد فترة قصيرة شعر أنه ارتكب خطأً فادحاً، لأن الإمام (عليه السلام) كان عارفاً بنواياه فقلب الموازين، وأفرغ عنوان ولاية العهد من محتواها عملياً، عندما لم يستفد من إمكانات جهاز الحكم، أو عندما لم يقم بأي عمل سلطوي ولم يدافع عن الحكومة، ولم يعط تصورا أنه راغب بهذا المنصب، فأفشل مخطط المأمون بإضعاف الإمام (عليه السلام) والنيل منه ومن مكانته التي كانت الجموع الغفيرة تلتف حوله وتقدسه. والإمام (عليه السلام) في كل مناسبة أخذ يعلن أنه كان رافضاً لهذا المنصب ويقول:(ما دخلت في هذا الأمر إلا دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى وهو المستعان)(1)، وبهذه الطريقة يوجه أصابع الاتهام إلى السلطة التي راح المجتمع يرمق باستهجان سياستهم.
وفهم العالم الإسلامي متناقلاً بينهم أن حاكماً كالمأمون قطع رأس أخيه وطاف به لأجل السلطة كيف يتخلى عنها أو عن بعضها إلى غريم له، فالدوافع لم تكن نابعة من الولاء لأهل البيت(عليه السلام)، وأراد بزعمه أن يظهر مظهر المتقارب فكرياً مع العلويين أو أراد إفهام المجتمع إرجاع حقوقهم، وهي سياسة عموم خلفاء بني العباس، مفضوحة ومتعينة في قول الإمام الحسن العسكري(عليه السلام):(يعلمون -أي بني أمية وبني العباس- ليس لهم في الخلافة حق فيخافون من ادعائنا إيّاها وتستقر في مركزها).

فترة الرخاء
بقبول الإمام الرضا (عليه السلام) ولاية العهد أزال الخفاء وكل أسباب التستر والتقية، وأوصل نداء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) إلى أسماع جميع أفراد الأمة في الدولة الإسلامية، والعلن طغى على الصراع الخفي الذي قاده المأمون، وأتى بثمار لم يكن يتوقعها جهاز الحكم، وأقلقهم كثيراً. فبمجرد ذياع الخبر في جميع الولايات الإسلامية، ومن طريقة المدح والثناء الكبيرين من المأمون أمام الحاضرين في مجلس تسليم الإمام الرضا (عليه السلام) المنصب، وذكر نسبه الرفيع ومقامه العلمي وفضله وتقواه وترديده في كل مناسبة يذكر صفاته الحميدة، وإعلانه العفو العام عن جميع قادة ثورات العلويين، مما شجع الولاة والأمراء والقادة أن يتحدثوا بمثل ما تحدث به، حتى أئمة الجمعة صاروا يدعون له.
من جانب الإمام الرضا(عليه السلام) فقد استثمر هذا الوضع لنشر التشيع حتى بلغ آنذاك ذروته، وعمل على بيان حقيقة الخط الرسالي تميزاً عن النهج المزور الذي أتخذه الخلفاء الغاصبين، فتبنت الناس آراء أهل البيت(عليه السلام) وأفكارهم وتحققت المعرفة بالمقام الواقعي للأئمة، بعدما لم يكن أحد يجرؤ على ذكر فضيلة لهم، ورجع ذكر عظمة آبائه الأئمة (عليه السلام)، فقسم ما كان ليعرف سوى الاسم، وقسم تربى على بغضهم، فأصبح الشعب يؤمن به كشخصية تستحق التعظيم، ذي لياقة لتسلم الخلافة، وبالخصوص طبقة الفقهاء والقضاة والقادة والوزراء من غير بني العباس، إذ اطلعّوا عن كثب على أفكار هذه المدرسة.
وعندما كان يردّ على آراء التيارات المنحرفة كالمشبهة والمجسمة والمجبرة والمفوضة والغلاة وعلى شبهاتهم المتعلقة بالتوحيد وغيره قال الناس والله انه أولى بالخلافة من المأمون، فوجد المأمون نفسه مضطراً إلى أن يسلك ما سلكه أسلافه بتصفية الإمام (عليه السلام).
على أية حال استفادت الشيعة استفادة بالغة بتواجد الإمام (عليه السلام) في مركز حكم المأمون، مما سمح باستخدام منبر الخلافة ووسائله الإعلامية بإيصال الخطب والشعارات والكلمات، وصارت الدروس تعقد في المنتديات والأماكن العامة، وازداد محدثو الشيعة ومفكريهم، فأوجد الإمام (عليه السلام) لنفسه ولأتباعه رخاءً لم يكن ليحصل إلا بحماقة ما اقدم عليه المأمون.

احتجاجات الإمام الرضا(عليه السلام).
جهد المأمون أن يسقط محل الإمام الرضا(عليه السلام) من النفوس، فلم يظهر من الناس إلا ما زاد به فضلاً عندهم، ففي كل مرة لم يحصل على ما يريد، فقد دعا الإمام (عليه السلام) ليناظر أهل الأديان مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصابئيين والهربذ الأكبر، وأصحاب زردهشت، وقسطاس الرومي والمتكلمين من أهل المذاهب، فتغلب عليهم بأجمعهم في مجلسه الذي كان عامراً بالوجهاء والشخصيات، فسجّل الإمام الرضا(عليه السلام) تفوقاً وأقروا له جميعاً بالفضل وعلى أنفسهم بالقصور، فازداد المأمون غيضاً وازداد الإمام (عليه السلام) فضلاً عند الناس، ومن خلال هذا التوسع بهذا الانفتاح هو أراد إعداد جيل منهم ليحرصوا على صيانة التراث الإسلامي من تراث الأمم الأخرى وتياراتهم الفكرية المنحرفة بعد سماح حكام بني العباس لحريتهم في التعبير عن عقائدهم لتفتيت التآزر بين المسلمين، فأمر الإمام(عليه السلام) بمقاطعتهم لمنع تأثيرهم، وكفرّ الغلاة والمفوضة وقال أنهم مشركون، ولعن الواقفة وكذبهم وأثبت لهم موت أبيه، وحارب التصوف ومفاهيم الزهد الخاطئ، ودعا إلى التوازن الاقتصادي والدعوة إلى الإصلاح، وإحياء روح الاقتداء برسول الله (صلى الله عليه واله)، واعترف المأمون بأنه أعلم أهل زمانه بلا منازع وقال له:(أشهد أنك وارث علم رسول الله).
وكما كان يتحدث الإمام (عليه السلام) مع الموافقين كان يتحدث إلى المخالفين حتى سمي (بالرضا) لمقبوليته من جميع الأمة وقد قال الإمام الجواد(عليه السلام):(رضي به المخالفون من أعدائه كما رضي به الموافقون من أوليائه، ولم يكن ذلك لأحد من آبائه(عليه السلام) ، فلذلك سمي من بينهم الرضا)(2).

اغتيال الإمام الرضا(عليه السلام).
في زمن الأئمة الجواد والهادي والعسكري تضاعف أعداد الشيعة عشرات المرات عن زمن الباقر والصادق (عليه السلام)، ولعل السبب أن الإمام الرضا(عليه السلام) والانفتاح في سياسته والتفاف الناس حوله بالمسير الطويل من المدينة إلى مرو ومشاهدة الناس له عن قرب، فلقد كان شيئاً عجيباً وكأن المرء عندما يراه كأنه ينظر إلى النبي (صلى الله عليه واله) بتلك العظمة والهيبة المعنوية والعزة والأخلاق والتقوى والنورانية والعلم، فأحدث هزة، ومهما سُئل ويطلب منه كان الأمر بيده، وما كان الناس ليروه من قبل، ولا يعني هذا أنهم أصبحوا شيعة ولكنهم أصبحوا محبين لأهل البيت (عليه السلام)، وبفقده حصلت نكبة وفاجعة كبيرة.
لقد كان الإمام الرضا(عليه السلام) يعلم بأنه سوف يقتل على يد المأمون، ويموت قبله، وأخبر أنه يدفن قرب هارون، وقال (عليه السلام):(أنا وهارون كهاتين) السبابة والابهام.
وبما أن المأمون لم يصل إلى مراده من توليته بل العكس تولدت له فتن كبيرة ومشاكل، وتمرد عليه بني العباس، فأفضت به الأسباب إلى التخلص من الإمام (عليه السلام) وقتله.
فكانت شهادته (عليه السلام) في (17) صفر سنة (203) هــ، بشربة سقاها إياه، وقد رثاه دعبل الخزاعي من جملة قصيدة عصماء، قال فيها :
قبران في طوسٍ خير النـــاس كلهـــم           وقبــــر شرهــــم هذا مـــن العبــــر
ما ينفع الرجس من قرب الزكي وما              على الزكي بقرب الرجس من ضرر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- وسائل الشيعة:17/203.
2- عيون أخبار الرضا:1/13.

نشرت في الولاية العدد 119

مقالات ذات صله