زيارة الأربعين مظهر من مظاهر المحبة الإلهية

أ.م.د خليل خلف بشير

لقد أثبتت تلك الملايين في توجهها الصادق صدق المقولة الشهيرة(الإسلام محمدي الوجود وحسيني البقاء)، وهي عبارة حبّ وعاطفة أطلقها عشاق ومحبو الإمام الحسين (عليه السلام) فقد كانت المسيرة الإسلامية بعد استشهاد أمير المؤمنين(عليه السلام)قد اتخذت طابعا وراثيا وانحرفت عن مبادئها التي أراد لها الله سبحانه تعالى، وتوالى على رقاب المسلمين أراذل الخلق وأشرارهم، بيد أن الإمام الحسين (عليه السلام) بخروجه وثورته المباركة أثبت حيوية الإسلام وتصديه للظلم ورفضه للطاغوت، ولعل خروجه(عليه السلام) في الثامن من ذي الحجة وخلعه ثياب الإحرام للتوجه الى الجهاد ونصرة الحق أبلغ دلالة على أهمية النهج الحسيني فالحسين في ثورته أصرّ على القيم المحمدية في حين أصرّ أعداء الإسلام على النهج الطاغوتي.

وقد تفردت زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) بالتنوع والتعدد والكثرة التي لا شبيه لها مقارنة بزيارات المعصومين(عليهم السلام) جميعاً، بالإضافة الى الزيارات الموسمية التي يصل عدد الوافدين فيها الى الملايين مثل زيارة عاشوراء وزيارة الأربعين وزيارة الأول من رجب وزيارة النصف من رجب وزيارة النصف من شعبان وزيارة ليالي القدر في شهر رمضان وزيارة عيد الفطر وزيارة عرفة وزيارة عيد الأضحى فضلاً عن الزيارات العامة.
ولعل لزيارة الأربعين خصوصية في كثرة الوافدين من مختلف بقاع العالم لذا ينظر المراقبون الدوليون الى هذا المهرجان العبادي الروحي التعبوي على وجل وخوف؛ لأن هذه الوفود والقدرة في التعبئة المليونية والسنوية لا تمتلكها أي دولة عظمى ولا وسطى ولا أخرى ولا الإسلامية، بل حتى النظم الشيعية لا تمتلك هذه القدرة، وإنما الذي يمتلك هذه القدرة والوميض والمحرك هو الإمام الحسين(عليه السلام) بشكل طوعي بلا ترغيب ولا ترهيب بل فيه التضحية بالنفس والمال لاسيما والزائرون المشاة في تحدٍّ خطير تجاه الإرهاب الحاقد الأعمى البغيض.
فالإمام الحسين(عليه السلام) الذي استشهد قبل أكثر من أربعة عشر قرناً ما زال مسيطراً على النظم البشرية والمجتمع البشري أقوى من سيطرة أي نظام في العالم إذ يخرج زمام الأمر من يد الدولة، ويكون بيد الحسين(عليه السلام)، وهو ما قاله بعض المسؤولين من أنّ الحسين(عليه السلام) يحكم العراق خلال زيارة الأربعين، ولو أُطلق الفضاء للشعوب الأخرى لرأيناهم ينجذبون وينقادون للحسين وما تمليه مبادئ الحسين وقيمه والجو التربوي لسيد الشهداء ولعاشت البشرية في الجنان؛ لأنّ الحسين (عليه السلام) يقود القلوب الى الصفاء، وليست البشرية وحدها تنقاد له بل حتى الملائكة فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: ((… وليس من ملك ولا نبي في السماوات ولا في الأرض إلا ويسألون الله أن يأذن لهم في زيارة قبر الحسين (عليه السلام) ففوج ينزل وفوج يعرج)).
ولعل أبرز ما يظهر العظمة والجلال في الشعائر الحسينية بعدان هما:

1- البعد العقائدي: ذلك لأن الشعائر الحسينية محمدية متصلة بسيد النبيين لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (حسين مني وأنا من حسين أحبّ الله من أحب حسيناً)، والاتصال بالرسول منطق قرآني إذ يقول الله تعالى: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وبذا تكون الشعائر الحسينية محمدية إلهية، وتمثل فعلاً استراتيجياً يهدف الى توحيد القلوب في سياق عولمة توحيد الله. قال تعالى: ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) .

2- البعد العاطفي أو الوجداني: وهو بعد لا ينفك عن حركة القلب في خط العقل، وهذه الحركة العقلانية هي العقيدة، وهي الحب، قال الإمام الباقر: (وهل الدين إلا الحب وهل الدين إلا الحب، قال الله تعالى «حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ» وقال «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله » وقال « يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ»).
ويتجلى هذان البعدان (العقائدي والعاطفي أو الوجداني) في الشعائر الحسينية بالتنقل من الذكر والفكر والحرارة في القلب والمعرفة الى اللهج والدمع والنشيج والنحيب والجزع بلا حدود والتوثب في ساحات (يا ليتنا كنّا معك) وصولاً الى لقاء الله بتاج الشهادة ووسام السعادة.
لا يمكن النظر الى زيارة الأربعين في كونها مجرد طقوس عبادية محضة بقدر ما هي بناء مجتمع ورؤية ثاقبة ومرآة ناصعة للبشرية إذ تتجلى مفاهيم التكامل والتضامن وغيرهما من المفاهيم الأخلاقية ليس على الصعيد الفردي والأسري بل على الصعيد المجتمعي كحل الأزمتين: الاقتصادية والأمنية والتمييز العنصري وغيرها من الأمراض الاجتماعية التي تعاني منها البشرية.
إذ ترى هذا المجتمع الفاضل في مسيرة الأربعين يعيش حالة من الصفاء الروحي والنوري، ويتمنى كل فرد منهم أن يعيش هذه الحالة طول عمره، ونرى المؤمن إذا دخل في معسكر هذه الأجواء للشعائر الحسينية يعيش حياة هذا المجتمع النوري الفاضل بيد أنه إذا رجع الى مدينته أو بيته وتناسى الحسين عليه السلام فبقدر ما نبتعد عن الحسين نبتعد عن هذا النور وعن هذه الجنة والمثالية، وبقدر ما نعيش ونقبل على الحسين عليه السلام نعيش هذه الجنان الحسينية.
نشرت في الولاية العدد 121

مقالات ذات صله