الشيخ حبيب الكاظمي
إن من الموضوعات الإعتقادية، والتي وقع حولها كثير من الخلاف بين فرق المسلمين، التعامل الصحيح مع النبي (صلى الله عليه وآله) عندما يراد جعله شفيعا ووسيلة ووسيطا لقضاء الحوائج.. وهل يصح أن ننادي النبي (صلى الله عليه وآله) في طلب الحوائج؟.. وهكذا الكلام في آله أيضاً، الذين هم استمرار لخط النبي المصطفى -صلى الله عليه وآله-.. في الواقع علينا أن نفهم هذه القواعد لنخرج بفائدة متكاملة:
نحن نعلم أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله عز وجل، والنبي (ص) عندما أعلن دعوته في مكة، كان شعاره: (قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا)!.. هذه هي العبارة التي نقلت عن المصطفى (ص) قبل أن ينقل تشريعات الصلاة والصيام والحج والزكاة.. وإذا كان المراد هو التهليل اللفظي، فمن الواضح أن اللفظ لا يؤثر في الواقع.. والفلاح قضية خارجية، وأمر حقيقي.. والأمر الحقيقي، يحتاج إلى تهليل حقيقي.. نعم، عندما تأتي الرواية وتقول: (من قال: لا إله إلا الله، بنى الله له بيتا في الجنة).. قد يقول قائل: بأن التلفظ يكفي لأجل أخذ الأجر، لكنه يحتاج إلى العمل بمضمون كلمة لا إله الله.. لذلك إمامنا الرضا (عليه السلام) حينما أراد أن يتكلم حول كلمة التوحيد، قال: (لا إله الله حصني) -نقلا عن رب العالمين- (فمن دخل حصني أمن عذابي).. إذن، هذا المعنى واضح، وهو أن النبي وأئمة أهل البيت (ع) هم أوائل الخلق في ترسيخ هذا المفهوم، ولا كلام في ذلك أبدا.
وحينما يكون الإنسان بهذه النفسية، وبهذه الرؤية الكونية، وبهذا الاعتقاد القلبي.. ويقول: يا رسول الله!.. سل الله تعالى قضاء حاجتي.. فمن الواضح أنه يجعل النبي وآل النبي وسطاء لأجل قضاء هذه الحاجة.. وما المانع؟.. بل هو بمقتضى العقل!.. فالوجيه في كل أمة للكلام مع ذلك الطرف، الذي أعطاه هذه الوجاهة.. والذين ينكرون هذه المعاني، فإنهم في حياتهم اليومية يستغيثون بكل أحد!.. فالمريض يستغيث بالطبيب، والإنسان يستغيث بأبيه وأمه، وعندما يبتلى ببلية يذهب إلى بيت فلان وإلى دار فلان، ويستغيث بالناس، وينادي المسلمين.. فهل مناداة المسلمين هذه استغاثة بغير الله عز وجل؟.. وقد نقل في التأريخ أنه في بعض الحروب، عندما كان يحيط الكفار بالنبي (ص) من كل صوب، فكان ينادي عليا، ويطلب منه أن يذب عنه شر المشركين، حتى يأتي النداء من رب العالمين، أو بوساطة جبرائيل: إنها لهي المواساة!.. نحن في حياتنا اليومية نلتجئ إلى البشر، (فالجميع قاطبة)، ومن الأديان كلها، ومن المذاهب والملل جميعها، لا ينكرون الرجوع إلى الأخرين ، أوإلى المتخصص في كل مجال.. فما المانع أن يطلب الإنسان من أولياء الله عز وجل ذلك!.. وإن قلت: بأنه هناك فرق بين الحي والميت، فأنا أستغيث بأبي وأمي، وبالطبيب المعالج، وبمن ينقذني من الغرق، لأنه يسمع كلامي، وأما النبي فهو لا يسمع ما أقول.. فإن هذا الكلام رده القرآن الكريم، بآية معروفة خاصّه بالشهداء، فالقرآن الكريم يؤكد هذا المفهوم قال الباري عزوجل: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).. والشهيد هو الذي مات في سبيل الدفاع عن الدعوة المحمدية.. فكيف بنبي الشهداء، وبإمام الشهداء، لا يرزق؟.. وكما هو معلوم أن من لوازم الحياة السمع والبصر، فالنبي (ص) عندما دفن أو ألقى قتلى بدر المشركين في القليب، أخذ يكلمهم وقال: فو الله ما أنت بأسمع منهم!.. إذا كان المشرك يسمع كلام النبي، فكيف بنبي الرحمة (ص)؟.. وعليه، فبعد أن اعتقدنا بحياتهم وبوجاهتهم، وأنه لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى، وأن الحوائج ترفع إلى رب العالمين أولا.. فلا ينبغي أن نستوحش من اختلاف صيغ التعبير.. وهناك ثلاث صيغ لقضاء الحاجة، وهي صيغ كلية:
الصيغة الأولى: أن نطلب من الله عز وجل طلبا مباشرا.
الصيغة الثانية: أن نطلب من الله عز وجل أيضا طلبا مباشرا، ولكن مع توسيط أوليائه، كما نقرأ في الآية قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ الله تَوَّابًا رَّحِيمًا).. أي نطلب من الله عز وجل بجاه ذلك المعصوم.
الصيغة الثالثة: أن نطلب من المعصوم، ولكن المعنى موجود في القلب.. ألا تقول في زيارة المعصوم: سل الله قضاء حوائجي؟.. إذن، ظاهر الخطاب للمعصوم، ولكن باطنه لله عز وجل.. فالإنسان الذي لديه هذا البعد الإعتقادي، لا يستوحش من هذه التعابير، وعلينا أن نحلل الكلمات.
إن من الغريب أن القرآن الكريم يطرح عيّنات ونماذج، من أن الشيء إذا انتسب إلى عالم الغيب، أو انتسب إلى أولياء الله عز وجل، انقلب عن ماهيته.. فالقمصان في العالم كثيرة، ولكن لماذا عندما ألقي قميص يوسف على يعقوب ارتد بصيرا؟.. لأنه قميص يوسف، وهو نبي مظلوم مضطهد، وقد ألقي في غياباب الجب، وجاهد نفسه (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ).. والنتيجة: إن هذا من موجبات الوجاهة عند الله عز وجل.. وهناك آية في القرآن الكريم تنسب البركة إلى خشب، أو قال تعالى: (يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ)، فقد جعل السكينة في هذا التابوت الخشبي، ولعله المهد الذي كان فيه موسى -عليه السلام- عندما ألقي في النيل، أو غير ذلك.. المهم أنه منتسب إلى النبوة.. وكذلك فيما يتعلق بفعل السامري قال تعالى (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)، حيث أنه استفاد من حافر الدابة التي كان يستقلها جبرائيل مثلا،.. إن هذه الآثار عندما تنتسب إلى الجهات العليا، تصبح لها جهة علوية.. وأكبر دليل على ذلك الكعبة المشرفة، هل الإنسان له الحق أن يقدس جبال مكة؟.. إن هذه الحجارة نقلت من جبال مكة إلى أرض الوادي، وبنيت بها الكعبة.. وهذه الكعبة إنما نطوف حولها؛ لأنها منتسبة إلى الرب.. والمسلمون قاطبة يقدسون الحجر الأسود، ويلثمونه، بل يتنازعون على لثمه وتقبيله، كل ذلك لانتسابه إلى رب العالمين.. فالجماد عندما ينتسب إلى الرب، يكتسب صفة الخلود والصفة الإلهية كعبة، أو تابوتا، أو قميصا، أو حجرا اكتسبت الخلود لانتسابها لله جل وعلا ،فلماذا حينما يصل الدور إلى أولياء الله الأحياء، يستغرب الإنسان البركة والكرامة في هذا المجال؟.. إذن، نحن نعتقد بأن هذه المعاني معانٍ مقبولة.. والإنسان إذا علم أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله، حينها لا مانع من استغاثة بالنبي أو الولي، ولا ينسى هذه القاعدة، فلا يقع في دائرة الشرك أبدا.
إن الإنسان في بعض الأوقات عندما يتهيب جهة عليا، فإنه لا يتكلم معها مباشرة حياء واستحياء.. فمثلا: ولد عاص عاق، لا يتكلم مع أبيه.. لا من باب عدم الاحترام، وإنما من باب الخجل، فيوسط أحد أصدقاء أبيه للحديث معه.. وأنه لم يكلم أباه مباشرة، هل يعد ذلك عدم احترام، وعدم اعتراف به؟.. بل على العكس تماما، يرى أنها حركة إيجابية.. والإنسان يذهب إلى النبي المصطفى (ص) ويتجشم عناء السفر، ويقف في تلك الروضة المطهرة، التي هي روضة من رياض الجنة حسب ما ورد عن النبي (ص): (إن بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)؛ لأنه منبر النبي، ولأنه قبر النبي، وهذه العبارة منقوشة في الروضة.. فلماذا أصبحت روضة؟.. لأنها واقعة بين منبر وقبر النبي (ص)؛ ومعنى ذلك أن للقبر وللمنبر خصوصية، وإلا ما أصبحت هذه البقعة روضة من رياض الجنة.. وهذه المنطقة من الحرم النبوي الشريف، كانت لأيتام في المدينة، اشتراها النبي (ص) لتوسعة المسجد، أو لبناء المسجد.. إذن، إن الكرامة جاءت من الانتساب إلى المصطفى (صلى الله عليه وعلى آله).
نشرت في الولاية العدد 124