الإنســانية الكــــاملة

رياض مجيد علي

بدأ العالمُ يفقدُ بصيص أمله في الخروج من الأنفاق المظلمة التي يعيشُ فيها الإنسان في عصرنا هذا، عندما نتجوّل في قوانين ودساتير الأمم نجدها تسعى – في ظاهرها وبمستوى ما يعقلون ويدركون وُضّاع هذه الدساتير – إلى إقرار النظام والعيش بأمنٍ وسلام، وإشاعة ثقافة التراحم والتعاطف وغيرها من المفاهيم التي يعتقدون بأنّها المخرج لهم من كلّ الأزمات، ولكن عندما ننظر إلى ما يدور حولنا من أحداث وانتهاكات لحقوق الإنسان، وقتل وتدمير لشعوبٍ بأكملها، وتجاوزٍ على الحريات، نكتشف أنّ هذه القوانين إنّما وضعت لفئة خاصة وليس لها أية صلة بعامة الناس، وإنما من أجل تسلط مجموعة من مصاصي الدماء والوحوش الكاسرة التي لا تمتلك ضميرا ولا ذمة، فالخيرات التي حبانا الله بها على هذا الكوكب بإمكانها أن تشبع أضعاف ما موجود من بشر يعيش على كوكبنا هذا، إذن لماذا كل هذه الحروب، وهذه النزاعات، وهذه الدماء التي تُراق هنا وهناك؟!

الله عزّ وجل هو الذي خلق الكون بدقائقه المرئية وغير المرئية فهو، الأعلم بما يحتاجه الإنسان، وبما ينفعه في مسيرة هذه الحياة، وهو الأعلم بما يضرّه ولا ينفعه لأنّه هو القائل: {وهو أقربُ إليكم من حبل الوريد} أضف إلى ذلك الحقائق العلمية التي اكتشفت حديثاً قد ذكرها القرآن قبل أربعة عشر قرناً، ألا يدلّ هذا على عظمة اللطيف الخبير، بعد ذلك أليس من الأجدر أن يقتنع العقلاء بأن لا طريقَ للسلام والأمان في هذه الحياة الدنيا إلا في العودة إلى قوانين السماء؟، ومن حكمة الباري عزّ وجل وحبه لعباده أن جعل الأنبياء والأوصياء والأئمة ليكونوا المرشدين والممثلين والسفراء له عز وجل لتبليغ رسالته، وقد دلّت الأدلة العقلية والنقلية لمن لديه عقلٌ وقلبٌ خالٍ من الرين والتعصّب بأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو خليفة خير البشر رسول الله(صلى الله عليه وآله) في إرشاد البشر إلى جادة الصواب والأمان، وهذا ما نجده واضحاً وجلياً في نصوصه البلاغية من جهة، وبوساطة سيرته العملية من جهة أخرى، فأيّ مفهومٍ إنساني أو علمي أو ديني لا يوجد لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) أثرٌ بالغٌ ومتميزٌ فيه؟! فهناك الكثير من الشواهد التي تدلنا إلى هذا الطريق المستقيم، و إلى هذه الروح السماوية التي انقطعت بكل جوانبها إلى الباري عز وجل، ولم يفكر بنفسه يوماً، وإنّما كان جلُّ تفكيره بالله وكيف يهدي هذه البشرية إلى الطريق القويم، لذلك من التصغير والتقزيم أن نحجّم شخصية أمير المؤمنين(عليه السلام) وننسبه لفئة دون أخرى وهذا ما نصّ عليه القرآن الكريم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}(الأنبياء/107)، و أمير المؤمنين(عليه السلام) هو نفس رسول الله(صلى الله عليه وآله) في كل شيء إلا النبوة، (أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبي بعدي)(روضة الواعضين/89 )فحينما ننظر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) علينا أن ننظر إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله)وعظمته ومكانته من الله، وأمير المؤمنين(عليه السلام) هو نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنص القرآن الكريم: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ … أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم}(آل عمران /61)، فهل بعد هذا نقول إنّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) خاص بالشيعة أو إمام الشيعة؟! بل هو إمام العالم بأسره، إذن إن كان أمير المؤمنين(عليه السلام) إماما وخليفة من قبل الله عزوجل على عباده والله هو أرحم الراحمين بعباده فلايرسل خليفة على عباده إلا من امتلأ قلبه بالرحمة للرعية، وهل يوجد قلبٌ رحيم وعطوف على الرعية أكثر وأكبر من قلب علي بن أبي طالب(عليه السلام)؟! السؤال هنا لماذا لا تسير الشعوب المسلمة على نهج عليّ(عليه السلام)، وعلى أقل تقدير من أجل الدنيا ومن أجل تحقيق السعادة في هذه الدنيا إن لم يؤمنوا بإمامته وخلافته الحقة لرسول الله(صلى الله عليه وآله)، وكما قالت سيدة النساء(عليها السلام): {وَ اللَّهِ لَوْ تَكَافُّوا عَنْ زِمَامٍ نَبَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه و آله) لَاعْتَلَقَهُ وَ لَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً، لَا يَكْلُمُ خِشَاشُهُ ، وَ لَا يُتَعْتَعُ رَاكِبُهُ، وَ لَأَوْرَدَهُمْ مَنْهَلًا نَمِيراً فَضْفَاضاً تَطْفَحُ ضِفَّتَاهُ، وَ لَأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً، قَدْ تَخَيَّرَ لَهُمُ الرَّيَ‏ غَيْرَ مُتَحَلٍّ مِنْهُ بِطَائِلٍ}، والزهراء (عليها السلام) سيدة نساء العالمين ولاتتحدث عن عاطفة، وهي المرأة المعصومة بنص القرآن الكريم، ولكنّ الشيطان كان لهم بالمرصاد، حيث حرفهم عن جادة الصواب، فعزلوا أمير المؤمنين (عليه السلام) عن منصبه الإلهي، لينفردوا بحطام الدنيا الزائل، بل انقلبوا على أعقابهم، {ومَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ }(آل عمران/ 144)، فقد انقلبت الأمة على عقبها وآلت الأمور إلى ما نحن عليه اليوم من تشتت وتمزّق وتناحر، فبعد أن كنّا خير الأمم، وبعد أن ازدادت وتوسعت رقعة الإسلام أصبح اليوم المسلمون يُقتلون بدمٍ بارد، مشتتين في بقاع الأرض يقتل بعضهم بعضاً باسم الإسلام، ويكفر بعضهم بعضاً، والسبب واضح، لأنّهم ابتعدوا عن الطريق الحق، وما زلنا بعيدين عنه، ولا طريق للنجاة إلا ذلك الطريق الذي جاء به رسول الله(صلى الله عليه وآله) وبوساطة هذه السطور علينا أولاً أن ندعو أنفسنا للعودة إلى طريق أمير المؤمنين(عليه السلام) ونحن نعيش هذه الأيام أيام ولادة بطل الإسلام علينا أن نراقب أنفسنا ونقوّمها، كم نحن بعيدون عن هذا الطريق؟ وماذا علينا أن نفعل لكي نقترب من هذه الرحمة الإلهية الكبيرة؟ فلو شرّقنا أو غرّبنا سوف لن نجد طريقاً للنجاة أفضل وأسهل وأقرب إلى الله من هذا الطريق، وهو الذي سيأخذ بأيدينا إلى طريق النجاة في الدنيا والآخرة.. فعندما نستذكر هذه الشخصية في ذكرى ولادته علينا أن نستذكر أخلاقه، وسيرته العطرة، ونهجه القويم، وسياسته الواضحة التي أثبت بوساطتها أنّ السياسة الإسلامية لا تقبل المحابات والمجاملة على حساب الحق، فعليّ مع الحق والحق مع علي، فكم نحن مع الحق وكم الحق معنا؟ وهو القائل (عليه السلام) كلُّ يومٍ لا يُعصى فيه الله فهو عيد، إذن لنجعل كلّ أيامنا أعياداً عبر الابتعاد عن المعاصي والذنوب، وأن نتوجه إلى الباري عزوجل بكل ما نملك من مقومات التوجه الصادق، ومن كان مع الله كان الله معه، لذلك علينا أن ننهل من نبع أمير المؤمنين(عليه السلام) الطيب الطاهر لنجعل من يوم ولادته يوماً نبتهل به إلى الله أن لا يخرجنا من الدنيا حتى يرضى عنا، بتمسكنا بولايته، وانتهاجنا نهجه القويم، ومن صدق مع الله في نيته وعمله كان الله هو الذي يأخذ بيده إلى طريق المستقيم، ونحن في كل يوم ندعو الله أن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وهذا هو الصراط المستقيم فلماذا غفلنا عنه؟ ولماذا ابتعدنا عن حياضه؟ فعلينا العودة مادام في الوقت متسع، حيث لاينفع ندمٌ ولا توبة… فلندخل في دائرة إنسانية أمير المؤمنين(عليه السلام) لنرسم لنا ولمجتمنا طريقاً واضحاً لاعودة منه..

نشرت في الولاية العدد 126

مقالات ذات صله