سلسلة امراض النفس (الغيبة)

فاروق ابو العبرة
تكلمنا في الأعداد السابقة عن جملة من الأمراض الخلقية والنفسية (كالرياء، والكبر، والنفاق)، وهي من الصفات الرذيلة التي يعاب ويعاقب عليها الإنسان عند الاتصاف بأي منها، والآن جاء دور صفة أقبح وأعظم من كثير من الذنوب، وهي من الجرائر العظيمة، ومن المعاصي الكبيرة الماحقة للإيمان، ومن مفسدات الأخلاق ظاهراً وباطناً، وأشد من الزنا، ومرتكبها خارج من ولاية الله، وداخل في ولاية الشيطان، ويكفي أنها إدام كلاب النار، يخمشون وجوههم بأظافرهم يوم القيامة، ورائحتهم أنتن من الجيفة، وشبههم الله تعالى بآكلي لحم الميتة بقوله:(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ)(الحجرات /12)، ألا وهي (الغيبة) المحرمة.

وفي معناها: إنك تتكلم في غياب إنسان بما يغمّه، أو يسوؤه، أو بما يكرهه من العيوب، وهو أشد وأعظم إثماً وجرماً من الغيبة، بأنك تضع المؤمن في موضع التجني عليه بما لم يفعله .
كقوله تعالى:(وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْم بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَل بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)(النساء /112)، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):(إذا كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته) .
وقال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في الغيبة:(هي أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه))(1)، وعليه هي ألأم وأخس الصفات وأخطر الجرائم والآثام، فهي معول هدام تقوّض حركة الأفراد، ويهديم عرى العلاقات في المجتمع، ومن مساوئ الغيبة تبذر سموم البغض، والفرقة، وتعكر صفو المحبة بين الأقرباء والأصدقاء، وبما أن العرف الاجتماعي غالباً لا يفهم من خصوصية الغيبة إلا اللفظ، فهي لا تنحصر بالأقوال بل تمتد إلى العيوب السلوكية، فتدخل في مجال الخطيئة الكبرى، ولها تصورات بشعة ومشوهة في عالم الملكوت في الملأ الأعلى، وفي عالم الآخرة .
فقد روي عن عائشة أنها قالت: (دخلت علينا امرأة فلما ولت أومأت بيدي أنها قصيرة فقال(صلى الله عليه وآله): اغتبتيها)(2)، وقال (صلى الله عليه وآله): (كذب من زعم أنه ولد من حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة)، فالذي يفتش عن عيوب غيره ليستغيبهم، الأحمق بعينه، يعتقد أنه خالٍ من العيوب، ولا يدري لا يوجد عيب كعيبه هذا .
لهذا فالسعي في هتك ستر المؤمن، وكشف عورته، وإهانته، وإذلاله، واحتقاره، وتعييره، وإحصاء عثراته والطعن فيه، يكون هتكاً لناموس الله وكرامته، وسيكشف الله ستره ويفضح أسراره للآخرين.
وهو تجسيد قوله (صلى الله عليه واله): (من اغتاب امرءاً مسلماً بطل صومه، ونقض وضوؤه، وجاء يوم القيامة يفوح من فيه رائحة أنتن من الجيفة، يتأذى به أهل الموقف، وإن مات قبل أن يتوب مات مستحلاً لما حرم الله عز وجل))(3)، فالمستغيب نهايته نهاية الكافر مستحلاً لما حرّمه الله، فيرد النار، في المحشر بحال مزري من الذل والمسكنة.
وقال الإمام الصادق(عليه السلام): (من روى عن مؤمن رواية يريد شينه، وهدم مروته ليسقط من أعين الناس، أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان)(4)، وطالما حققت الغيبة آثارا من الفتن الخطيرة، والمآسي المحزنة، فضلا عن آثامها ومساوئها الروحية، حيث تنقل الغيبة حسنات المستغيب إلى المستغاب، كما في حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال:( يؤتى بأحدكم يوم القيامة، فيوقف بين يدي الله تعالى، ويدفع إليه كتابه، فلا يرى حسناته فيقول: إلهي ليس هذا كتابي فإني لا أرى فيه طاعتي، فيقول له: إن ربك لا يضل ولا ينسى، ذهب عملك باغتياب الناس، ثم يؤتى بآخر، ويدفع إليه كتابه، فيرى فيه طاعات كثيرة، فيقول: إلهي ما هذا كتابي، فإني ما عملت هذه الطاعات، فيقول له : إن فلاناً اغتابك فدفعت حسناته إليك)(5) .
وعناوين كثيرة من الذنوب تعمل عمل الغيبة، كل واحدة منها قاصمة للظهر، وتكون سبباً مستقلاً لهلاك الإنسان، فمثلاً روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله:(أدنى الكفر أن يسمع الرجل من أخيه كلمة يحفظها عليه يريد أن يفضحه بها أولئك لا خلاق لهم)، لهذا من يتصف بالغيبة يصاب بالنميمة، التي هي أيضاًمن أبشع الجرائم الخُلقية وأخطرها على حياة الناس، والنمّام ألأم الناس وأخبثهم، لأنه لا يتصف بالغيبة فقط، بل بالغدر، والنفاق، والإفساد، والتفريق بين الأحباء، لذا جاء ذمه والتنديد به في قوله تعالى: (ولا تطع كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم)(6)، والزنيم هو الدعي، والأدعياء من لهم سجايا اللقطاء .
وقد قال تعالى فيه:(ويل لكل همزة لمزة)، فالهمزة النمام واللمزة المغتاب، لهذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):(ألا أنبئكم بشراركم قالوا: بلى يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون)، وقال الإمام الصادق (عليه السلام):(النمّام شاهد زور وشريك إبليس في الإغرار بين الناس).
ويكفي أن نلاحظ إن من يستعمل الغيبة إرضاءً لرغباته بدافع المرض النفسي بهذا الفعل المشين ليشفي غيظه ويتشفى ممن يحسدهم، ويكشف عوراتهم القولية، والفعلية، هو أمام الخلود في العذاب أو المكوث سنين طويلة في المعاناة.
ويجب أن نعلم أن من بواعث الغيبة الحسد، والعداوة، وهما أقوى دواعي الاغتياب، وقد تستحسن الغيبة عند الهزل، والمباهاة، أو عند مجاراة الجالسين من اللاهين، والخلطاء .
أما الأضرار الناجمة عن مثل هذه الأفعال القبيحة، وما تخلفه من الآثار في المجتمعات، فبدل أن ينتاب الناس الاتحاد، والتآزر، والتآخي، ليحققوا القوة، والمنعة، والألفة، والمحبة، وتوثيق العلائق الأسرية، تنتهي إلى الأحقاد، والضغائن، والغش، والخيانة والسخرية الموجبة لتقاطع المسلمين مع بعضهم والتحارب فيما بينهم.
ويمكن ردع النفس وأهوائها، والانتهاء عن ممارسة الغيبة، وردّ مكائد الشيطان، وتسويلاته ويعد هذا العمل من العبادات، وجهاد للنفس لئلا تميل نحو الشرور والقبائح، ومن غرر الحكم ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله:(جاهد نفسك على طاعة الله مجاهدة العدو عدوه، وغالبها مغالبة الضد ضده، فإن أقوى الناس من قويّ على نفسه).
ويمكن للمستغيب أن يحل المشكلة باسترضاء من استغابه والتودد له وملاطفته، وإلا استغفر له وتخلى عن هذه الموبقة، فالإسلام عقد الأخوة بين المسلمين بقوله تعالى:(إنما المؤمنون أخوة))(7)، وقال الإمام الصادق (عليه السلام):( تواصلوا وتباروا وتراحموا وكونوا إخوة بررة كما أمركم الله عز وجل)، وهذه في الشرائع السماوية من الأهداف الرئيسة، توحيد الكلمة والاتفاق على صفاء الظاهر، والباطن للحد من الظلم الذي يبعث على فساد الإنسان.
فالذي لا يحافظ على الأخوة، ويستعمل الغيبة، أو غيرها من الرذائل الخلقية، لا يستحق أن يكون من المؤمنين أو المسلمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بحار الأنوار:15/177 .
2- جامع السعادات: 2/ 294 .
3- وسائل الشيعة: م8 ب152 ح13 .
4- بحار الأنوار: 15/ 187 .
5- جامع السعادات: 2/ 301 .
6- القلم/ 10- 13 .
7- الحجرات/ 10 .

نشرت في الولاية العدد 126

مقالات ذات صله