الموروث وصراع الحداثة

سندس الكوفي

شدني وأنا أتصفح كتاباً للدكتور علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي الذي ذكر فيه الأصول والأعراف الخاصة بهذا المجتمع. حيث حلل ووصف هذا المجتمع تحليلا دقيقا ووصفه بالمجتمع البدوي الذي تحكمه عادات وتقاليد وأعراف بدائية ومنذ الأزل. وعلى الرغم من توالي حقب الزمان وتغيير أحداثه وتطوره من زمن إلى آخر إلا أنه مازال يعاني من تلك الأحكام العرفية والعرقية. فمن الملاحظ اليوم هناك الكثير ممن نفوا وجودها في يومنا هذا إلا إن الممارسات المستمرة من قبل العشائر التي تعيش في هذا المجتمع تجعلك تتيقن من وجودها وعدم اندثارها كما يدعي بعضهم في وصوله إلى التحضر والحداثة.
ففي أحد فصول هذا الكتاب بين لنا الدكتور الوردي كيفية تبادل ادوار الحكومات بحسب ما يقتضيه الوضع الدارج في البلاد من ناحية حكم وقوة السلطة الحاكمة قياسا بنفوذها وقوة سلطتها على القانون، ذكر لنا كيف إذا كانت قوة سلطة العشائر تضاهي قانون الحكومة الحاكمة، يسود حكمها ويكون الحكم في البلد حكماً بدوياً عشائرياً أو على العكس إذا كانت حكومة التمدن وقوة القانون أصبح الحكم حضاريا قياسا بمكانتها وتسميتها، الأمر الذي دفعني للبحث ومقارنة ما يحكمنا اليوم والفترات التي عشتها منذ نعومة أظفاري. ففي اليوم وبعد وصولنا إلى القرن الواحد والعشرين. ووصول العالم إلى قمة التطور والعولمة والغزو الإلكتروني وعلى الرغم من أننا نلاحظ تغيير الكثير من العادات والتقاليد السائدة، وبعد الفحص والتمحيص والخروج إلى الناس ومعاشرتهم ودراسة سلوكياتهم، وجدت أن كل هذا الادعاء كان ظاهريا ولم يصل إلى عمق هذه العادات والاعراف المغلقة التي تربى عليها أبناء هذا المجتمع. على الرغم من مؤثرات التحضر ومغرياته إلا أن أساس هذه التقاليد قد بني بناءً رصيناً، وهذا لا يعني أنني ممن يؤيد الانغلاق والتضييق. بل معه من ناحية وضده من ناحية أخرى.. مع كونه بنى لنا أخلاقاً توارثناها من أجدادنا وأهلنا ومنها كرم الضيافة وحسن الخلق والتعامل الحسن مع العدو قبل الصديق. وضده في الانغلاق والتعصب والعجرفة وفرض الرأي بكل أنانية وإصرار من قبل الأهالي والعشيرة في أحكام الفصل العشائري وغصب الفتى والفتاة على أمور تهم حياتهم وإجبارهم بحجة التقاليد. ومنه زواج أبناء العم، ولا يحق للغريب أن يتقدم دون مراعاة لمشاعرهم وبخس حقوقهم في اختيارهم ممن يستحق أن يكملون معهم حياتهم والأدهى من ذلك أنهم تناسوا أحكام الدين في التوافق والقبول، وهذا ألحق وهبه لهم دينهم ،في العيش الكريم بحرية إلا إنهم لم يراعوا هذا الجانب بسبب التعصب والأنانية والطغيان العشائري.. فلقد التقيت أثناء بحثي بإحدى الفتيات التي كانت ضحية لهذه العادات والتي شرحت بدورها أسباب زواجها وإجبارها الارتباط بابن عمها كونهم أبناء عشيرة معروفة…
إذ قالت.. اضطررت على الموافقة لإرضاء أهلي وعشيرتي بعد اكمالي دراستي وحصولي على شهادة الماجستير في الفلسفة، فهو قرار أهلي وابن عمي أحق عليّ من الرجل الغريب، ومما زاد ألمي في كلامها دموعها المنهمرة عندما سألتها عن عمله وتحصيله الدراسي الذي لم يكمل مرحلة المتوسطة…بالله عليك أيها القارئ الكريم حينما تكون فتاة بهذا المستوى من العلم والثقافة وتُجبر على الزواج بسبب ما يسمى العادات العشائرية ماذا يكون جوابك؟ أًوصل التطور والحداثة لمثل هؤلاء الناس ؟ أم أننا مازلنا في ذلك الزمن الذي يحمل تلك التقاليد والأعراف المجحفة…..ونرى أخرى قررت الانتحار وهي بعمر الورد لأن أهلها وعشيرتها قد أجبروها على الزواج أو وهبوها لإحدى العشائر التي بينها وبينهم ثأر، وعند انتقالها إلى بيت الزوجية الموعود سمعت أبشع النعوت ومنها (الفصلية)، الأمر الذي جعلها تتحمل أشد أنواع المعاناة ولاسيما الزوج المبجل الذي كان يضربها لأقل هفوة كونها نكرة كما يدعي وبسبب ما حدث بين العشيرتين وكأنها هي الملامة الوحيدة عن ما حصل وعليها تحمل أخطائهم معا، الأمر الذي اوصلها إلى الانتحار بعد أن كتبت رسالتها الأخيرة: أنا امرأة كرهت البقاء في حياة تحكمها التقاليد.
والأعراف التي جعلتني كالحيوان المؤتسر.. وغيرها الكثير من القصص ألتي نشاهدها في حياتنا اليومية ،وللوصول إلى عمق المشكلة لا بد من أن نعرض عدة أسئلة لذوي الاختصاص والمعرفة بهذه الطبيعة المجتمعية، كي نصل إلى حقيقة مقنعة تفهمنا. ملابسات هذه القضية المتناقضة في شخصية الإنسان العشائري. وهل استطاعت الحداثة أو التطور أن تغير العادات والتقاليد ؟.. و هل انتهى العرف العشائري اليوم بعد وصولنا إلى القرن الواحد والعشرين، سؤالنا الأول كان للأكاديمي والإعلامي راجي نصير حيث قال: أعتقد أن المجتمع العراقي الآن في مرحلة انتقالية لم يغادر بشكل كامل العرف العشائري والقيم والعشائرية القديمة، ولم يدخل بشكل كامل في الحداثة والتطور الحديث الذي تشهده المجتمعات البشرية، فشخصيتنا اليوم خليط بين القيم العشائرية والمبادئ الدينية ومبادئ أو معتقدات مدنية وبالتالي نحتاج إلى فترة للنضج فحينما تحدث حالة من التناشز بين سلوك مدني يقابله سلوك عشائري ويقابله موقف ديني وبالتالي تتضح صورة المجتمع الذي يحتاج إلى وقت لينتمي إلى مدرسة من هذه المدارس مع احترامي إلى المدارس الأخرى..
أما دكتور حسنين جابر الحلو فكان له رأي مغاير حيث قال: إن الحداثة تغير في المجتمعات ولاسيما إذا كانت رخوة بحيث تأخذ بكل قادم حتى إذا كان مخالفا لبيئتها ودينها وهنا نجد أموراً منها: إن المجتمع العراقي قياسا بالمجتمعات العربية الأخرى لم ينزلق بصورة مباشرة وإنما هناك ثوابت حافظت على البنية الاجتماعية كالعادات والتقاليد والدين، وهناك بعض الحالات التي لا يمكن أن نسميها ظاهرة، ولكن بقاءها يولد التراجع فلابد من معالجتها بأسرع وقت، أما الشق الثاني للسؤال. فللعشائر دور مهم في حياتنا الاجتماعية، فهم المتصدون للهجمات الغربية ولاسيما في ثورة العشرين، واليوم في فتوى الدفاع المقدس، وعلى الرغم من التحديات والتغيرات ستبقى العشائر شاخصة في حياتنا لأنها سبّاقة لدفع الضرر عن الناس منبثقة بمسيرتها من أحكام القرآن والنبي(صلى الله عليه وآله) ومدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، ولتنوع الآراء كان للاعلامي طلال حسن رآي آخر إذ قال : هنآك تلازم بين العشيرة والدين، هذا التلازم اخر العملية الديمقراطية في العراق لم ينص الدستور العراقي الحديث على إبعاد العادات القبلية في مجمل الحقوق والواجبات، وبالتالي مازالت الأعراف العشائرية والتقاليد القبلية تتحكم في أكثر مفاصل الحياة في العراق حتى وصلت إلى التدخل في القانون، بالتالي نحتاج حقاً في القرن الواحد والعشرين إلى أن نحدد الحقوق والواجبات حتى نبني بلدا ديمقراطيا ونضع هذا البلد على السكة ،الآن الكثير من الأعراف تتحكم في تصرفات الفرد والمجتمع ،نحتاج حقاً إلى وقفة في هذا المجال وإبعاد هذه التقاليد أو تجذيفها على الأقل، حتى نأخذ منها ما ينفع المجتمع ونرمي القديم الذي أثّر في الحركة الاجتماعية في العراق ونرميه بعيداً…بوساطة هذه الآراء التي اطلعنا عليها دلّت على أن شخصية المجتمع العراقي قد بنيت بناءً تناقضيا، فهي على الرغم من تعايشها وترحيبها بالديموقراطية التي جاءت بما يسمى التطور الحضاري، والذي غزا جميع مؤسسات حياته إلا أنه في الداخل يؤمن بعاداته وتقاليده التي عاشها وترعرع عليها منذ القدم، فهي باقية وتتمد في كل العصور القديمة منها والمتطورة وإلى الآن.

نشرت في الولاية العدد 126

مقالات ذات صله