عَلِّيٌ والفَوْزُ في السِبَاق

الشيخ بدري البدري

للفوز معان متعددة منها النجاة والظفر بالأماني ونيل المطالب والنجحُ في الامتحان ونيل الجوائز وغير ذلك، ومن يخوض غمار الحياة ويتقلب بين نعيمها وبلائها وهو يعلم أن أيامها معدودة ومدتها قصيرة وأنّ بعد الرحيل عنها تبدأ الحياة الحقيقية التي يعتقد دوام بقائها، والمرء فيها إما مُنعم أو معذب صار لزاماً عليه اختيار الطريق الذي ينجيه من عذابها وينتهي به إلى نعيمها.
وجدير بمن خَبَرَ الحياة وتقلبات أحوالها أن يكون على حذر من مكائدها، ويعاملها معاملة العدو الذي يتربص بكل ما عنده من نفسٍ أو عُمر أو غير ذلك، وأخطر ما يضر الإنسان نفسه التي بين جنبيه إن اختارت طريق الخسران على طريق الربح والنجاة، قال تعالى في الآيات البينات (7ـ 10)من سورة الشمس: (ونَفس وما سواها ـ فألهمها فجورها وتقواها ـ قد أفلح من زكاها ـ وقد خاب من دساها).

فالذي دلّ الانسان على طريقي الخير والشر هو الله تعالى، وتمام الاختيار بيد الإنسان ذاته، فالفلاح لمن طهّر نفسه بالطاعة، وأنماها بالعلم والعمل، والخسارة لمن دساها، أي أخفاها بالمعصية أو بالجهل، فإذا شخّص الإنسان الخير في نفسه فليبادر إليه بالعمل كي ينال حظه منه، وإن علم الشر فيها فليمتنع عن فعله ويكن في حرز من مكائدها.
وأيام المرء وعاءٌ لأعماله، فإن ملأها بصالح الأعمال كان المغنم من نصيبه، وإن غصها بطالح الأعمال فقد خسر رأس ماله.
فإذا نظرنا إلى سلوك أمير المؤمنين(عليه السلام) وتعامله مع الدنيا علمنا كيف خطّ لنفسه طريقا يوصله إلى نهاية واحدة ونتيجة محتومة هي الفوز في دار المقامة، فهو الذي صدرت منه الحكمة بقوله: «نَفَسُ المَرْءِ خُطاه إلى أجلِه» وفي كلمة أخرى: «يا بن آدم إنما أنت أيام».
هكذا عَرَفَ أميرُ المؤمنين(عليه السلام) الدنيا بحقيقتها وشخّص ما ينفعه وما يضرّه منها، وأنّ كلَّ يومٍ من أيّامه بل كل نفس من أنفاسه طاقة يجب الإنتفاع منها وعدم تضييعها في غير حق.
وكما عَرَفَ الدنيا بزوال نعيمها وتقلب أحوالها ونفادها، فقد عَرّفَ عليه السلام الآخرة بحياتها الباقية ونعيمها المتجدّد، فتراه منذ عرفّهما وميَّز الفارق بينهما رسم لنفسه صورة ومنهجاً لتحديد علاقته ومعاملته معهما.
غاية تلك العلاقة الفوز في النعيم الباقي وحيث أنّ الباقي صفة الآخرة ولازمها فلابد من أن يقدم مقدمات الفوز وأهمّ مقدماته عدم الاهتمام لأمر الدنيا ومعاملتها على حذر وأخذ الكفاف ممّا يسدُّ حاجاته من مؤونة معاشه من مأكل ومشرب، وجعل كل اهتمامه في بناء آخرته حيث دار الإقامة والخلود.
ومن بديع منهاج عليٍّ(عليه السلام) في توفيق عمله بين حياة يعلم تبدلها وتحولها وزوالها وحياة يعتقد دوامها وانتقاله إليها طالت الأيام أم قصرت، جميل سيرته وحكمة منهجه في الأخذ من الأولى لبناء الآخرة فتراه في أعظم حالات اليقين بربّه يؤمن إيمانا مطلقاً أنّ النافع والضار والحافظ (الله تعالى) وحده.
كان له غلام اسمه قنبر يحبه حبّاً شديداً، إذا خرج عليٌ(عليه السلام) خرج الغلام على أثره بالسيف فرآه في إحدى الليالي خلفه فقال: يا قنبر مالك؟ قال: جئت لأمشي خلفك فإنّ الناس كما تراهم يا أمير المؤمنين فخفت عليك، فقال: ويحك! أمن أهل السماء تحرسني أم من أهل الأرض؟ قال: بل من أهل الأرض. قال: إن أهل الأرض لايستطيعون بي شيئاً إلّا أن يأذن الله (عزوجل) من السماء، فارجع فرجع.(بحار الأنوار: 5/104)
وقيل له (عليه السلام) يوم صفين: احترس يا أمير المؤمنين فإنّا نخشى أن يقتلك هذا اللعين، فقال(عليه السلام): كفى بالأجل حارساً، ليس أحد من الناس إلا ومعه ملائكة حفظة يحفظونه من أن يتردّى في بئر، أو يقع عليه حائط أو يصيبه سوء، فإذا حان أجله خلّوا بينه وبين مايصيبه، فكذلك أنا إذا حان أجلي انبعث أشقاها فخضب هذه من هذه، وأشار إلى لحيته وهامته ـ عهداً معهوداً ووعداً غير مكذوب (البحار: 41/2).
بنفس مطمئنةٍ بما يكون أمره في أيام يعيشها في الدنيا، وأخرى ينتظرها وتنتظره عند لقاء ربّه كان يعمل فهو يستشعر ويعيش الحالتين معاً، فصورة حاضره ومستقبله واضحة جليّة أمام بصره وبصيرته، فهو يعرف بدء وجوده وغايته ومصيره وسر سعادته.
علم عليٌ(عليه السلام) أن الحياة مضمار يضمُّ سباقات متنوّعة الأهداف والغايات، والمنافسة شديدة بين أهلها.
أهل الدنيا يتنافسون لنيل ما يرغبون به منها ويدفعون رسوم المنافسة وضرائب دخول المضمار، فيفنون أيّامهم ويسهرون لياليهم بل يقضون أعمارهم ليحصلوا على مقدار من دنيا يحلمون أن يعيشوها أو أشياء يقتطعونها منها من مال ولذائذ ومناصب تكون بأيديهم تارة ثم تصير بأيدي غيرهم. يحصلون على يسيرٍ من مُتع الدنيا، لسان حالها كلوا حيناً فإنّي راحلة عنكم وأنتم راحلون.
يبلون شخوصهم ويقضون اعمارهم ويخسرون عقبى أيام يدوم نعيمها وتطول آمادها، وأهل الآخرة أيقنوا أن المضمار له سباق واحد وينتهي إلى نتيجة واحدة وفوز محتوم ولسباقهم رسوم ضرائب لابدّ من أن يدفعوها، وهي راجعة إليهم أضعافا مضاعفة.
أهم ما عليهم تقديمه السعي الحثيث لرضا ربّهم ومحاربة الهوى وأن يجعلوا الدنيا مَطية للوصول إلى غايتهم المنشودة.
أعدَّ عليٌ(عليه السلام) وهيّأ للسباق عُدّتَه وأخلص لله نيته وواصل ليله بنهاره لخدمة وطاعة ربّه، سبق الناس إلى الإسلام فكان أوّلهم، وأحبّ خالقه ونبيه وآمن بالله ورسوله أشد الإيمان فصار المؤمنون يُعرفوا بحبّهم وانتمائهم إليه، جُمعت فيه الفضائل كلُّها فكان إمامها، زَهِدَ بالدنيا وحطامها وقرّب إليه المساكين فذابوا في حبه فصار لهم أباً، عشق ربه حتى صارت روحه تسبح في ملكوته، وصار يرى معشوقه في كل شيء، خاض الأهوال وأشدّ ما يلاقيه الرجال وهاب منازلته صناديدُ الأعداء فكان الفتى الذي مدحته السماء، وفي يده صارم الحق الذي أنشد مدحته أمين الوحي في الفضاء.
عَمَّرَ الأرض وأسّس للإنسانية قواعدها وإن عاش غريبا بين أهلها علم أنه الفائز الذي لم يسبق في مضمار وراح ينتظر اللحظة التي يعلن فيها تسلم جائزته حين أقدم إليه أشقى الآخرين ليشق جرحا للدين والإنسانية لما يندمل.
فاز بلقاء ربه … «معلناً فزت ورب الكعبة» فتهدّمت أركان الهدى …لسفك دمه المقدس ليعلن جبريل الحــداد …قتل أتقى الأتقياء … قتله أشقى الأشقياء فسلام عليك سيدي ياأمير المؤمنين وأنت عند مليك مقتدر وفي جوار أخيك النبي (صلى الله عليه وآله) ولا حرمنا الله أجرك وشفاعتك.

نشرت في الولاية العدد 128

مقالات ذات صله