الأديب وبوصلة التأريخ

الباحث والمؤرخ جهاد أبو صيبع

هناك وشائج قوية بين علم التأريخ والنتاج الأدبي وتفرعاته الأكاديمية البحثية، كلاهما يستمد من جوهر الآخر وحيثياته عناصر يحيى بها ومواضيع يتجلى بها لا يمكن الاستغناء عنها، فهي تعيش في تركيبة كليهما حدثا وأفكارا وتدرجا موضوعياً زمنياً أو مكانياً.
فلا نغادر أديباً أو نتاجاً أدبياً حتى نرى أثر هذا التأريخ أو رموزه حية ترزق تحاكي الواقع وتحاكمه بوساطة تلك الشخوص والأحداث، على وفق أساليب إبداعية أدبية مختلفة وطرائق متعددة.
الروائي والأدب والتأريخ
ويكاد كاتب الرواية أن يكون أكثر الأدباء وضوحاً في تناوله الحقب التأريخية ورجالاتها وأحداثها ، وهو يؤرخ لها ولذلك المجتمع في تلك الحقب التأريخية، واضعا حركة التأريخ ثيمة أساس في متناول الحدث الروائي ومغزاه الإنساني في حبكة وفن وزمن وشخوص يتناول فيه الروائي الأحداث والصراعات والانفعالات الاجتماعية والفكرية والسياسية والفنية أحيانا بل أي نشاط انساني يمكن أن يكون موضوعاً أو محوراً لعملية السرد الإبداعي على وفق شروطها الإبداعية المطلوبة.
وتعد بعض الروايات مصدراً أساساً لفهم طبيعة المجتمعات كما في الروايات الواقعية التي تناولت مجتمعات محددة في حكايات فصلت بها العلاقات الإنسانية بكل عمق وتحليل واعي على وفق منظور إنساني يتعاطى مع التغيرات التي طرأت فيه والأحداث الموضوعية التي أثرت فيه فضلا عن الدافع الذاتي الذي طبعت عليه المجتمعات في خصائصها المتفردة عن غيرها.
وهي في مشاهدها وتحولها وحركتها انما تحاكي حركة التأريخ الفعلية سوى أن الأديب يشكل لوحته على الغالب من المشاعر الإنسانية وأحاسيس الفرد داخل المجتمع وهو يتفاعل بعضه مع بعض آخر في نسيج كلي مشكلا دراما الواقع ومشهده الحياتي، لا الحدث الكلي الشمولي في حركة التأريخ وأحداثه التي تعني المؤرخين والباحثين الأكاديميين أكثر من غيرها.
الغوص في الوعي والحدث
أي إن الأدب يدخل في التفاصيل الدقيقة مما يشكل إضافة للتأريخ نفسه آخذا تارة دور عالم الاجتماع وتارة أخرى عالما في النفس الإنسانية، مما يجعل له دوراً واضحاً في تفسير المتغيرات والعلاقات والأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية الخاصة والعامة، غائصا بشكل حاد في فلسفة التأريخ وفكره.
فيقودنا الأدب إلى طبيعة نشوء المجتمعات وانهياراتها واضمحلالها في الحقوب التأريخية الطويلة، وهو الغائر في سلوكيات المجتمعات عبر التأريخ أيضاً فيعطي الانطباعات والصفات التي تميز مجتمعا عن آخر، أو المجتمع نفسه عبر مراحل التأريخ، وهذا ما وجدناه واضحاً جلياً في كل أدب الشعوب ولا سيما روائيي تلك الشعوب.
لكن يبقى هناك بون شاسع بين الاثنين، الأدب والتأريخ،فضلا عن الأدب وباقي التداخلات الجراحية والتشخيصية لباقي المعارف والعلوم في منظومة الثقافة الذاتية لدى الأديب، والذي تكون من صفاته البديهية اتساع موسوعته الثقافية والمعرفية وقدرته وسعيه إلى الإحاطة بالموضوع الذي سيحبكه بشكل يلفت عناية المتلقي ويقنعه بجمالية النص وقدرته على الإقناع وذلك بوساطة تلك الإحاطة والسعة المعرفية.
السياسة والكمائن الفضفاضة
وفي الجانب الذي يقف فيه الأدب والتأريخ نجد جانباً آخر غير منحاز لهما، حينما يكونا منصفين غير منقادين لأي جهة ما، حتى المصلحة الخاصة، حينها يفقد النتاج في كليهما أهميته مهما بلغت من اتقان بحثي أو فني، ذلك هو الدخول في عالم السياسة، وتلك طامة كبرى ولعنة قد تصيب الشعوب، حينما يكون التزييف حاصلاً، أمراً واقعاً، في تأريخها، وحكايتها الانسانية، ومشاعرها، وتفاصيل حياتها الدقيقة، ورغباتها وميولها وذوقها العام والخاص، فيكون الأمر كانتحال صفة شخص آخر، أو الحديث عن شعب آخر أو حياة أخرى.
وهنا نرى جلياً سبب سمو وتعالي الأدب والتأريخ على السياسة والسياسيين، وتضارب المصالح في الغالب بينها. وكينونة الصراع، أن يبقى الحارس على التأريخ والإنسان أميناً، أو أن يكون تابعاً للسياسة وأغراضها النفعية المستبدة.
الواجب المهني والإنساني

لذا أرى أنه من الواجب الإنساني والشرعي، وفي كل القيم النبيلة، أن يكافح الأديب والمؤرخ لتقصي الحقائق، ولا سيما تلك التي تدفن تحت التراب، وتحت الأنقاض، وخلف القضبان، ووراء المنافي، وفي أدراج المعاملات الحكومية، والمغيبة في بيروقراطية السلطة أو في مقابرها الجماعية، وفي كل المدن والقرى المنسية، لنكتبها ونحكي حكايتها، ونترجمها إلى لغة المسحوقين، والباحثين عن الحقيقة والفضيلة، وصدق المعاني، والبراءة في ضحكات الأطفال وأحلامهم. كل على طريقته، لتبقى الشمس كما هي عليه تشرق كل يوم دون ضجر وبلا كلل أو ملل لا كما يقول التائهون، ولتبقى الغيوم ملبدة في السماء تحمل البشرى إلى السنابل في أرضنا المخضوضرة المعطرة بعرق الفلاحين والعمال والكسبة وطلاب المدارس لا كما يرى المتصحّرون أصحاب السدود العملاقة والحدود الطويلة الشاهقة الارتفاع، كلٌّ حسب فنه ومسؤوليته ووجهته التي حفظ دروبها وعرف اتجاهات مراكبها، وأي النجوم التي يجب اتباعها في هذا المحيط الطويل العميق المشدود للآفاق البعيدة، للوصول بمجتمعاتنا إلى بر الأمان، حيث يزدهر الحب والأمان وتسود العافية.

نشرت في الولاية العدد 128

مقالات ذات صله