خير الوجود و ثورية الحياة في فكر أمير المؤمنين(عليه السلام)

جورج جرداق

لشدّ ما رأينا أمير المؤمنين(ع) يجعل ثوريّةَ الحياة كُلاّ من خير الوجود، و خيرَ الوجود كُلّاً من ثورية الحياة.
و ليس من حقّ الوجود العادل إلاّ أنْ يكون خيّراً كريماً،و ليس من طبيعته إلاّ العطاءُ، وهو لا يأخذ ما يعطيه إلاّ ليعودَ إلى بذْلهِ طيّباً جديداً، وخيرُ الوجود كيانٌ من كيانه و جوهرٌ من جوهره،وعهْدُ عليٍّ(عليه السلام) به هو هذا العهد، و إحساسُه بخيره هو إحساسه بعَدْله لا يقلّ و لا يزيد، وعلى ذلك تحدّث عن هذا الخير فأكثر الحديثَ و قد روينا من أقواله في خير الوجود شيئاً غيرَ قليل، و لعلّ ما رويناه من تلك الروائع الصادقة نستطيع تلخيصه الآن بكلمة قالها و كأنّه يوجز بها مذهبَه المؤمنَ بخير الوجود: «و ليس الله بما سُئل بأجودَ منه بما لم يُسألْ»، فإذا عرفنا أنّ لفظة «الله» تعني في أقصى ما تعنيه عند القدماء من أصحاب الأصالة الذهنية و الروحية: مركز الوجودِ و الروابطِ الكونية، عرفْنا أيّ خير شاملٍ عميم هو خير الوجود الذي يمنحك ما تسألُ في ضمن شروطٍ، ثمّ يعطيك فوق ما تسأل، ثمّ يزيد!

و لمّا كان الإنسان الذي يحسب أنّه جرمٌ صغير، ممثّلاً لهذا العالم الأكبر على ما يقول ابنُ أبي طالب(عليه السلام)، فلا بدّ أن يكون هو أيضاً صورةً عن الوجود بخيره كما هو صورةٌ عنه بعدله، فإذا أعطاك الوجودُ فوقَ ما تسأله من خيره، يكون قد بدأكَ لحاجةٍ في طبيعته إلى أن يكون خيّراً، وإذا كنتَ صورةً عنه، فأنتَ أحْوَج إلى اصطناع الخير من أهل الحاجة إليه، وهذا ما يؤكّده عليّ(عليه السلام) بقوله هذا: «أهل المعروف إلى اصطناعه أحوجُ من أهل الحاجة إليه»(بحار الانوار: ج75/80)و هذا ما يؤكّده أيضاً في عبارةٍ يرجع إليها كلّما تحدّث عن اصطناع الخير بين الناس: «والفضل في ذلك للبادئ»(بحار الانوار: ج75/80).
وإذ ننتقل إلى النظر في الخير و معناه على صعيد العلاقات بين الناس، أمكننا أن نُجريَ آراءَ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) في المجاري الآتية:
أولاً: الخير بين الناس يكمن في أن يتعاونوا ويتساندوا، و أنْ يعمل واحدُهم من أجل نفسه والآخرين سواءٌ بسواء، و ألاّ يكون في هذا العمل رياءٌ من جانب هذا و لا إكراهٌ من جانب ذاك لكي «يُعمَل في الرغبة لا في الرهبة» على حدّ ما يقول عليّ(ع) ثم أن يضحّي بالقليل و الكثير توفيراً لراحة الآخرين واطمئنان الخلق بعضهم إلى بعض، و أن تأتي هذه التضحية مبادرة لا بعد سؤالٍ و لا بعد قسْرٍ وإجبار، و كلّ مامن شأنه أن ينفع ويفيد، سواءٌ أكان ذلك على صعيدٍ مادّي أم روحيّ، كان خيراً. (روائع نهج البلاغة: 69)
ثانياً: يرى عليٌّ(عليه السلام) أنّ الخير لا يأتي إلاّ عملاً أولاً، ثم قولاً، لأنّ الإنسان يجب أن يكون واحداً كالوجود الواحد، و أن يساند بعضُه بعضاً وفاءً لهذه القاعدة: «فإن قال فعل، و إن فعل قال». ومن روائع ابن أبي طالب(عليه السلام) كلمةٌ قالها في رجلٍ يرجو الله في أمرٍ و لايعمل من أجل هذا الرجاء: «يدّعي بزعمه أنّه يرجو الله! كذبٌ والعظيمِ! ما باله لا يتبيّن رجاءَه في عمله، فكلّ من رجا عُرف رجاؤه في عمله!» (نهج البلاغة: ج2/75) أمّا إذا عملتَ خيراً، فمن حقّك عند ذاك أن تقول خيراً: «قلْ خيراً وافعلْ خيراً!».
ثالثاً: يفسح عليّ(عليه السلام) المجال أمام قوى الخير لأن تنطلق أبعدَ ما يكون الإنطلاق، وذلك بأن يجعل قبولَ التوبة عن الشرّ قاعدةً يُعمل بها، فإذا أثِمَ المرء أو كان مسيئاً إلى الآخرين، فإنّ في التوبة باباً يلجه من جديدٍ إلى عالم الخير إذا شاء، يقول عليّ(عليه السلام): «اقبل عذر من اعتذر إليك، وأخّر الشرّ ما استطعت»(روائع نهج البلاغة:69)، ويعرف التأريخ مقدار الإساءة التي لحقتْ بعليّ(عليه السلام) بوساطة أبي موسى الأشعري، ويعرف كذلك أنّ عليّاً لاينزع عن مذهبه على الرغم من الظروف والصعوبات، لذلك تراه يبعث إلى أبي موسى قائلاً: «أمّا بعد، فإنّك امروءٌ ضلّلك الهوى، و استدرجك الغرور، فاستقلِ الله يقلْك عثْرتَك، فإنّ مَن استقال اللهَ أقاله»(نهج السعادة: ج5/45) .
رابعاً: يؤمن عليّ (عليه السلام) بأن قوى الخير في الإنسان تتداعى و يشدّ بعضُها بعضاً شدّاً مكيناً، فإذا وُجد في إنسانٍ جانبٌ من الخير فلا بدّ من ارتباطه بجوانب أُخرَ منه، و لابدّ من ظهور هذه الجوانب عند المناسبات. وفي هذه النظرة إشارةٌ صريحة إلى أنّ الوجود واحد متكافئٌ عادلٌ خيّرٌ سواءٌ أكان وجوداً عامّا كبيراً، أم وجوداً خاصّاً مصغّراً يتمثّل بالإنسان: «إذا كان في رجلٍ خلّةٌ رائقة فانتظروا أخواتها». (نهج البلاغة:ج4/104)
خامساً: و مثل هذه العدوى الخيّرة بين الخلال الرائقة، عدوى مماثلة تنتقل من الخير إلى الشر بين الناس و الناس: «جالس أهل الخير تكن منهم» و «اطلبوا الخيرَ و أهلَه».(روائع نهج البلاغة:70)
سادساً: الإيمان العميق بأنّ في طاقة الإنسان – أيّاً كان – أن ينهج نهج الخير، و أنّه ليس من إنسان أجدر من إنسانٍ آخر بهذا النهج: «ولا يقولنّ أحدُكم إنّ أحداً أولى بفعل الخير منّي».(نهج البلاغة: 4/99)
سابعاً: على المرء ألاّ يستكثر من فعل الخير كثيراً، بل إنّ ما يفعله من خير يظلّ قليلاً مهما كان كثيراً لأنّ في الاكتفاء بقدرٍ من الخير جحوداً بخير الوجود العظيم و إنكاراً لطاقة الإنسان الذي ينطوي فيه العالم الأكبر، يقول علي(عليه السلام) في أهل الخير: «و لايرضون من اعمالهم القليلَ، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متّهمون، ومن أعمالهم مشفقون».(نهج البلاغة: 2/163)
ثامناً: لابدّ من الإشارة إلى النظرة العميقة التي يلقيها عليٌّ(عليه السلام) على مفاهيم النزوع الإنساني إلى ما يجعل الناسَ، كلّ الناس، في نعيم.
فإذا نحن نظرنا في آثار معظم المفّكرين الذين أعاروا شؤونَ الناس اهتمامهم، رأينا أنّ لفظة (السعادة) هي التي تتردّد في هذه الآثار، وأنّ مدلول هذه اللفظة إنّما، هو بنفسه، مدار أبحاثهم وغاية ما يريدون، أمّا عليّ(عليه السلام) فقد استبدل لفظة» السعادة» هذه ما هو أبعدُ مدىً، وأعمق معنى، وأرحبُ أُفقاً، و أجلّ شأناً في ما يجب أن تتصف به الطبيعة الإنسانية و تصبو إليه. لقد استبدل لفظة بـ «السعادة» هذه، بلفظة «الخير» فما كان يوجّه القلوبَ إليها بل إليه، لأنّ في السعادة ما هو محصورٌ في نطاق الفرد، ولأنّ الخير ليس بمحصورٍ في مثل هذا النطاق، فالخير إذن أعظم ثمّ إنّ الخير يحتوي السعادةَ ولا تحتويه، فهو أشمل، أضِفْ إلى ذلك أنّ بعض الناس قد يسعدون بما لا يشرّف الإنسان، و أنّهم قد يسعدون بما يؤذي الآخرين، و أنّهم قد يتْفَهون و يترهّلون وهم يحسبون أنّهم بذلك سعداء، أمّا الخير فهو غير السعادة إذ يكون معدنها هذا المعدن، فهو السعادةُ منُوطةٌ بسعادة الناس جميعاً، وهو الرضى عنْ أحوال الجسد و العقل و الضمير، لذلك أكثر عليٌّ(عليه السلام) من استعمال هذا اللفظ في دعوته الحارّة إلى كلّ ما يرفع من شأن الإنسان.

نشرت في الولاية العدد 129

مقالات ذات صله