عَلِّيٌ (عَلَيْه السَلاَمُ ) ولِقَاءُ المَعْشُوُق

الشيخ: بدري البدري
من نظر في سيرة أمير المؤمنين علي(عليه السلام) نظرة موضوعية منصفة مجردة عن العصبية والهوى ووقف عند كل تقلّبات حياته وما أحاط به من ابتلاءاتها المختلفة من نعم ولذائذ ودنيا قد تزيّنت وعرضت نفسها عليه مراراً، وهو يراها ألدُّ أعدائه حتى خاطبها بقوله: (طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها..)(نهج اليلاغة: ج4/170) أو عداء أهلها ورصدهم له بكل حقد وأذى وهو لم يزل يعيش في منأى عنها وعن مكائدها.
لوجد علياً ذلك الإنسان الفذّ في قدراته والوتر في مواقفه وتصرفاته وفضائله معا.
الذي رسم لنفسه منهجاً وخط لها درباً مبتنياً على معرفته وعقيدته بربّه الذي رآه ببصيرة إيمانه وقلبه، إذ عرف خالقه بحقيقة الوحدانية وعرف من نفسه حقيقة العبودية تجاه ربّه.

فذاب في حبّه ووصل في عشقه إلى حالات تغيب روحه عن عالم الملك وتحلُّ في عالم الملكوت لتحظى بالقرب وتسعد بوصل المعشوق وتكون محل رضاه ونزول ألطافه.
من المعرفة انطلق عليٌ(عليه السلام) في تديّنه وما تفرّع عنه من سلوك مع ربه ومع الناس (فأول الدين معرفته) كما قال هو (عليه السلام).
رحلة علي(عليه السلام) إلى ربه بدأت على غيرعادة الناس، فقد كانت البداية من الولادة حيث خصّه الله بها في موضع يطوف حوله الموحدون.
في بيت التوحيد وقبلة الموحدين بدأت مسيرة عشق عليٍ (عليه السلام) لمعشوقه الأزلي، فولد نقياً طاهراً ونشأ في حضن أكمل إنسان وأكرم عبدٍ على ربه خاتم الرسل(صلى الله عليه وآله).
الذي تولّى رعايته منذ طفولته وكان ينتظر لحظة مجيئه إلى الحياة حتى إذا جاء وفتح عينيه أبصر بهما نور المعرفة والفضيلة والنبل نور المصطفى(صلى الله عليه وآله) الذي ما إنْ نفذ شعاعه قلب عليٍ(عليه السلام) وبصيرته فضلاً عن بصره إلا وشده إليه وصار متعلقاً به ذائباً في حبه وكأنه على موعد مسبقٍ معه ليضمه إلى حجره طفلاً صغيرا، يناغيه ببديع كلمات خير من نطق بالضاد ويسمع تسبيحه وتهليله حتى إذا بلغ عشراً ونُودي النبي(صلى الله عليه وآله) بأشرف نداء وأُمر أن يُبلغ أكرم دعوة ويدعو الناس إلى فضيلة الانتماء إليها، أبدى عليٌ(عليه السلام) رأيه سريعاً وأجاب دعوة النبي(صلى الله عليه وآله) ملبياً موحداً وهو غلام لم يبلغ الحلم، فكان أول الناس إسلاما بلا منازع، ونشأ فتى الرسول(صلى الله عليه وآله) والإسلام يمضي قُدما في خدمته لهما دافعه في ذلك عشقه لربه وانصهاره في حبهما.
وصل حب عليٍ(عليه السلام) وعشقه لربه ولرسوله أعلى درجاته فأوقفَ نفسه وكل ما أُعطي من قدرة للفوز برضاه وجعل وسيلته إلى نيل رضا ربه والفوز بوصله العمل الدؤوب واستعمل آنات عمره الشريف خير طاقة توصله إلى مراده.
حبُّ عليٍ لربّه وشوقه إليه أخذ منه ما يملك فهو في صلة معه في كل جوارحه لم ير شيئاً إلّا ويرى الله فيه ومعه وقبله وبعده، فتراه يعيش مع الناس لكنه يتعامل مع الله أولاً وآخراً، وفي محراب صلاته وعبادته تكون سعادته وأنسه وتطمئن روحه فذلك وقت خلوته مع مليكه الذي يعيش معه كل نفس يصعد أو ينزل، يخلو معه فيمجده بما عرفه من ربه وبما يكون من شأن العبد مع معبوده ويمدح صنيعه ويعدّد صفاته ويسأله مسترسلاً عارفاً: (اللهم إنّي أسألك برحمتك التي وسعت كلَّ شيء، وبقوتك التي قهرت بها كل شيء، وخضع لها كل شيء، وذل لها كل شيء، وبجبروتك التي غلبت بها كل شيء، وبعزتك التي لا يقوم لها شيء، وبعظمتك التي ملأت كل شيء).
ثم يخاطب ربّه بما عرفه خطاب العبد المتوسل من الرب الشفيق أن يعفو عنه ويتجاوز عن خطاياه ويغفر ذنوبه وإن كان معصوماً من الذنب بشهادة الكتاب والناس أجمعين.
عجباً يرجو عليٌّ غفران ذنوبه! وهل يعلم الثقلان ذنباً أو جرماً ارتكبه؟ لكنها خشية العارفين وخوف المُصطَفَين والعلماء، قال تعالى: «بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)(فاطر 28).
يخاطب ربه متضرعاً: «يا نور ياقدوس يا أول الأولين ويا آخر الآخرين»، ثم يعدد أنواع الذنوب التي يفهم السامع من منطوق دعائه أنّه مرتكبها وحاشاه من وليٍ ما أكمله ومعصومٍ ما أجمله ومن عارف ما أعبده وعالم ما أعظم خشيته لربه.
لعلّك يا أمير الهدى قصدت ذنوبنا وأنت تدعو الله بقولك: «اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تغيّر النعم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء سيدي إلى أن تقول في دعاؤك الموسوم بدعاء كميل: «اللهم اغفر لي كل ذنب أذنبته، وكل خطيئة أخطأتها»، عذرا سيدي أمثلك تكون له خطيئة أم مثلي، أأنا الذي يذكر ذنوبه ويحق له البكاء أم أنت؟!
أشهد أنّي لم أعرفك كما أنت ياسيدي لكني أطلب معرفتك ماحييت فأنت في دائرة ثلاثية المعرفة لايعرفك إلا الله ورسوله ولم يعرف الرسول إلا الله وأنت ولم يعرف الله إلا الرسول وأنت.
يا أمير المؤمنين لله حياتك التي مضت أيامها سريعا وراح ذكرك مدى الدهور مخلداً، في السلم أنت عليٌ في فضائلك، للإنسانية أنت إمامها، في الحرب أنت رأسها، شأنك في قصير عمرك الذي أمضيته حمل الزاد ليوم قريب تلتقي فيه مع معشوقك الذي ترى في لقائه عيدك الأكبر وقد لقيته فهنيئاً يا سيد الأوصياء فرحة اللقاء.

نشرت في الولاية العدد 129

مقالات ذات صله