ملامح علمية وتربوية من شخصية الإمام الصادق (عليه السلام)


أ.د. نـجم عبد الله غالي الموسوي

يعتبر الإمام الصادق (عيه السلام) من أبرز علماء عصره بل هو الفريد الذي تميّز بعطائه الكثير في مجالات العلم والحياة المختلفة، فهو مدرسة علمية وجامعة فكرية ومؤسسة تربوية خرجت الكثير من العلماء البارزين في مختلف العلوم، حتى قيل فيه إنّه أعلم الناس وقيل أفقه الناس.

ولا بد من التأكيد على أنّ الأئمة الآخرين (عليهم السلام) ليسوا أقل علماً بل إنّ الأجواء الزمانية الّتي عاشها كلُّ إمام معصوم(عليه السلام) هي التي تؤثّر في مجريات الأحداث وفي طبيعة الظواهر العلمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يقدّمها الإمام المعصوم (عليه السلام)، وقد استثمر الإمام الصادق (عليه السلام) الحقبة الزمنية التي عاشها أفضل استثمار كونها كانت حالة انتقالية وانشغال الدولة الأموية والعباسية بالحروب والاقتتال، فقد جاءت الظروف مناسبة لنشر العلم وتربية المجتمع وفسحت هذه الأجواء المجال أمامه لأن ينزل علميا وتربويا وإصلاحيا للمجتمع ويبث فيه علومه المختلفة وعطاءه الكبير راجياً بيان الإسلام الحقيقي ونشر علوم الشريعة الإسلامية السمحاء وعلوم محمد وآله(صلى الله عليه واله) الحقيقية النابعة من تعاليم السماء، فكثر نتاجه العلمي وازداد عدد المتعلمين تحت منبره وبين يديه.
ومن الواضح أنّ عطاء الإمام الصادق(عليه السلام) لم يكن عطاءً دينيا وفقهيا فقط، بل أضف إلى هذا العطاء عطاء علمياً مترامي الأطراف قدّمه الإمام الصادق (عليه السلام) في العلوم البارزة والسائدة في عصره فجاءت مدرسته علمية فكرية ثقافية تربوية كان هدفها صنع الإنسان وبناء كيانه وإيصاله إلى طرق الخير والهداية والصلاح.
ويجب أن نذكر أنّ منبر الإمام الصادق(عليه السلام) العلمي ومدرسته الفكرية كانت الأبرز والأفضل والأحسن والأدق من بين مثيلاتها المتواجدة، وكانت حالة التلمذة على يديه أو الجلوس تحت منبره سمة عالية المصاف يتشرّف بها الطلبة وكانت شهادة تخرج رصينة ذات معايير علمية دقيقة إذ يفتخر من يقول إنه من تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام)، حالها حالنا اليوم فالذي يتخرج من جامعة عالمية رصينة يفتخر ويتباهى بذلك، وبذلك نجح الإمام الصادق (عليه السلام) في تخريج جيل من العلماء الأفذاذ وليس من الطلبة، فهناك الكثير من الشخصيات المرموقة جدّاً صقلها الأمام (عليه السلام) وملأ يديه منها ومن مدى إخلاصها في عملها الديني والعلمي وفسح لها المجال أنْ تمارس عملها بكل ثقة واطمئنان.
أخذ الإمام الصادق (عليه السلام) على عاتقه الشريف بيان مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) وفلسفتها ومعالمها العلمية الرصينة وأظهر علوم أجداده الطاهرين ووضّح الأسس الصحيحة للدين الإسلامي وأعطى الخط العريض والواضح الذي يجب أن يسير الآخرون عليه، للوصول إلى حالة العبودية الصادقة لله تعالى، وبوساطة جهوده المباركة برزت الهوية العلمية الحقيقية للتشيع بوساطة إظهار علومه ومكنوناته المختلفة ورد الشبهات التي تثار حول التشيع بمناقشات علمية رصينة وبحوار فكري هادف وهادئ بعيداً عن السجال والجدال.
ومما يدلّ على نجاح تجربته الشريفة هو الأعداد الكبيرة من خريجي مدرسته التي سجلها التأريخ والذي يقول أغلبهم: (حدثني مولاي جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام))، فنسبة خريجي مدرسته ونسبة العلوم التي يحملونها وخدمتهم للدين والمجتمع دلت على كون الإمام الصادق (عليه السلام) ذلك المربي الناجح والمعلم المتميز والمدرس القدير والأستاذ الفذ الذي أثر في المتعلمين بما يحويه من سعة العلم وتكامل الأخلاق والتواضع المطلق وطلاقة الوجه والعناية بالآخرين وحسن التعامل معهم، فالمعلم الناجح هو الذي يترك أثراً إيجابيا في نفوس المتعلمين ويعرف كيف يتعامل معهم على وفق أسس تربوية وعلمية صحيحة.
فلم يكن يعرف عنه في مدرسته إلّا الخير والعطاء فلم يتبع سياسة التهميش ولا الإقصاء ولا غبن حقوق الآخرين، بل كان يركز على بث العلم والمعرفة، فكان في صفوف طلبته حتى المخالفين معه في الاتجاهات الفكرية والعقدية فكان هدفه وحدة الصف الإسلامي ومنح العلم وإعطاء المعرفة.
ومن السمات المهمة التي تميّز بها الإمام الصادق(عليه السلام) إنه كان ذو سعة صدر، يتعامل بما لديه من هذه الصفة مع الآخر بمختلف الاتجاهات الفكرية والعقدية، فكان حتى مع ألد وأشد خصومه الفكريين يتعامل برأفة ورقة وعقل وتروٍ في مجالسه العلمية، ويتغلب عليهم علميّاً ولا يظهر صفة التفوق على وجهه وكيانه بل يدحض كل حجج الآخرين بأسلوب تربوي وعلمي وحواري رصين وأدلة علمية مقنعة جداً.
ومما يحسب له(عليه السلام) أنه كان متفاعلا مع المجتمع الذي يعيش فيه أخذا وعطاءً ويحس بآلامهم وهمومهم وأوجاعهم ويتفاعل معهم في كل الظروف، فلم يعش حالة الانعزال والابتعاد عن الآخرين مثلما يعيشها الخلفاء والأمراء، بل كان واحدا من الناس يعش بينهم ويحل مشاكلهم ويصلح ذات بينهم ويتحسّس كلَّ الأشياء التي تمرّ بهم ويسهم في بناء المجتمع ونهضته ويتعاون مع الآخرين ويساعدهم ويدعو إلى الأخوة الإيمانية وكان يدعو إلى المحبة والألفة والمودة ويحذر من التباغض والتنافر والعداوة بين الناس، حتى أنه أصبح أسوة وقدوة في حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله ويقتدى به فكان زعيما في الدين والأخلاق والعلم والتقوى والتربية.
لقد أعطى الإمام الصادق (عليه السلام) جل اهتمامه وعنايته بإصلاح المجتمع وتقويم ما فسد منه في الاتجاهات كافة نتيجة الظروف السياسية التي مرّ بها المجتمع الإسلامي وتعاقب الطغاة عليه، ودخول الأفكار المنحرفة من بلاد غير المسلمين فلجأ إلى منهج الصلاح والتربية الحقيقية لإعادة النهوض بالواقع الاجتماعي من السقم إلى العافية وتوعية المجتمع بالمخاطر التي تدبر حوله.
ونجد الإمام (عليه السلام) قد اعتمد على الرؤية الإسلامية في إصلاح المجتمع ومواجهة الانحطاط الفكري والأخلاقي ومخاطبته بخطاب ديني وعقلي من أجل بناء المساحة الإيجابية في ذهنية المجتمع وتقليص الجانب السلبي ومحاربته، حتى أنّ الإمام (عليه السلام) يعرض تصرف المجتمع على منهج الإسلام في مرات عدة ويبين الخطأ فيه وينتقد من يخالف التعاليم الإسلامية الصحيحة ويوضح أنّه ليس من شيعتنا من يبتعد عن الرسالة الإسلامية الخالدة وتعاليمها الفذة.
وأخيراً أذكر إحدى توجيهات الإمام الصادق(عليه السلام) التي تعتبر نبراساً للعمل والتعايش السلمي بين أفراد المجتمع كافة: ((يا شيعة آل محمد اعلموا أنه ليس منّا من لم يملك نفسه عند غضبه ومن لم يحسن صحبة من صحبه ومخالقة من خالقه ومرافقة من رافقه ومجاورة من جاوره وممالحة من مالحه، يا شيعة آل محمد اتقوا الله ما استطعتم ولا حول ولا قوة إلا بالله) (الكليني، الكافي ، ج 2/ ص 637)

نشرت في الولاية العدد 129

مقالات ذات صله