الصندوق الخاتم

د. عبد الهادي الابراهيمي

الصندوق الخاتم هو ما يوضع أعلى القبر وغالبا ما يكون مصنوعا من الخشب، وإن أول من وضع صندوقا على قبر أمير المؤمنين عليه السلام هو أحد شخصيات بني العباس ويدعى داود العباسي في سنة 273هـ/886م تكفيرا عن ذنبه الذي اقترفه لمحاولته نبش المرقد المطهر لمعرفة حقيقته وكشف سره وظهور الكرامة الباهرة لإمام المتقين صلوات الله عليه, وقد وقعت حادثة النبش في أيام الخليفة المعتمد (256-279هـ) وتزامنت مع سقوط سقيفة مرقد الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) في ذي الحجة من سنة 273هـ(1). وبعد مرور عشر سنوات من وقوع تلك الحادثة شيد ملك طبرستان السيد محمد بن زيد الداعي الحسني العمارة الأولى لمرقد أمير المؤمنين (عليه السلام) في سنة 283هـ/896م وبقي الصندوق في مكانه متوسطا الحضرة المطهرة ضمن العمارة الجديدة(2).

ولعل من المناسب أن ننقل هنا ما ذكره الرحالة ابن بطوطة عن الصندوق الخاتم عندما زار النجف الأشرف في سنة 727ه/1327م حيث قال: (وفي وسط القبة مصطبة مربعة مكسوة بالخشب عليه صفائح الذهب المنقوشة المحكمة العمل مسمرة بمسامير الفضة قد غلبت على الخشب بحيث لا يظهر منها شيء, وارتفاعها دون القامة, وفوقها ثلاثة من القبور يزعمون أن أحدها قبر آدم (عليه الصلاة والسلام), والثاني قبر نوح (عليه الصلاة والسلام), والثالث قبر علي رضي الله تعالى عنه)(3)، ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن العمارة القائمة يومذاك التي شاهدها ابن بطوطة كانت لعضد الدولة فناخسرو البويهي, فضلا عن ذلك يوجد في الخزانة العلوية كسوة نفيسة (بردة) لصندوق القبر المطهر يعتقد أنها من إهداء السلطان البويهي.
وفي عهد الشاه إسماعيل الصفوي المتوفى سنة 930ه/1524م أمر بصنع صناديق لأضرحة الأئمة عليهم السلام في النجف الأشرف والكاظمية وسامراء بدلا من الصناديق القديمة(4). وفي عام 1126هـ/1714م تم تجديد الصندوق العلوي في عهد والي بغداد حسن باشا, وقد أرّخه الشاعر الأديب الشيخ محمد جواد بن عبد الرضا عواد النجفي البغدادي المتوفى سنة 1160هـ بقصيدة قال فيها:

لتباهي البـــــــــــــلادَ بغدادُ بَهْ بوزيـــــــــــــــــــــــرٍ عدُّوهُ هابَهْ
(حَسَنُ) من بحسنِ سيرتِهِ غرضُ العدلِ سهمهُ صابهْ
فلقدْ نالَ حســــــــنَ توفيق كانَ ربُّ السمــاءِ وهَّابَهْ
عندَ تجديدِهِ لصنـــــــدوقٍ نشرَ الحُســْــن فيه أثوابهْ
للإمامِ الذي لــــــــــــرفعتهِ لثمَ العالمــــــــــــــونَ أعتابَهْ
ذو المعالي عليُّ بنْ أبي طالب من غدا التقى دابَهْ
أسدُ اللهِ من بصـــارمِهِ قدَّ عمْراً وصد أحـــزابَهْ
يا لهُ مِنَ البهاءِ صندوقاً مدَ فيه السنــــــــــاء أطنابَهْ
فهو برجٌ بدا بــــــــه قمرٌ ظُلَمْ الغيِّ فيــــــــــهِ مُنجابَهْ
ألهمَ الحقُّ فيهِ تــــــاريخاً (أسدٌ جددوا لَهَ غابهْ)(5)

وتبرع بصندوق الخاتم الحالي الملك محمد جعفر بن محمد صادق الزند عام 1202ه/1787م, ويعد هذا الصندوق تحفة فنية فريدة إذ يمتاز بدقة الصنعة وروعة النقش وجمالية الخطوط, وصنع من خشب (الساج) الهندي المنقوش بالعاج والصدف وأنواع متعددة أخرى من الأخشاب الملونة, وطوق الصندوق بدعاء الجوشن ونقشت عليه بعض السور القرآنية وأسماء المتبرع والنجار والخطاط وتأريخ الصنع.
يقول الشيخ محمد حسين حرز الدين ما نصه:(وفي اسفل الصندوق يوجد شريط عريض من الكتابة بالخط الفارسي والنستعليق كتب فيه اسم الصانع والخطاط والمُهدي, وهذا نص ما كتب عليه:» قد تشرف ووفق بإتمام هذا الصندوق الرفيع خالصا لوجه الله تعالى واخلاصا لوليه وأوليائه». التوقيع: كلب عتبة علي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) محمد جعفر بن محمد صادق الزند أدام الله تأييده في سنة 1202ه. وفي آخر هذا التوقيع : « عمل بنده خاكسار محمد حسين نجار شيرازي, وكتبه محمد بن علاء الدين محمد الحسيني, سنة 1198هـ).(6)ِ
وفي سنة 1203ه/1788م أرسل الصندوق الخاتم من إيران إلى النجف الاشرف وقد أرّخ تأريخ نصبه في الحضرة المطهرة الشاعر السيد صادق الفحام النجفي, وهذه قصيدته:

للهِ صندوقٌ بديــــــــــعٌ صنعُهُ ليس له في الحسن من مضاهي
أودعَهُ صانعُهُ عجائبــــــــــــــــا تجـــــــــــلُّ عن حصرٍ وعن تناهي
يرمقُهُ الطرف فيغدو حائرا فيه ويرتدُّ حسيـــــــــــــــــرا ساهي
جلَّ عن المثل جــــلالُ مَن بِهِ جلَّ عن الأندادِ والأشبــــــــــــــــــاهِ
عيبةُ علم جُدّدتْ قــد حَوَتْ العلمَ الجليلَ الكــــــاملَ الإلهي
لذاكَ قد قلتْ به مؤرخــــــــاً (قد جُدّدتْ عيبــــةُ علمِ اللهِ)(7)

وعندما تم قلع الشباك الفضي القديم في أواخر سنة 1361ه/1942م وأبدل بالشباك الحالي على نفقة سلطان البهرة طاهر سيف الدين, نصب حول الصندوق سور زجاجي لحمايته من تراكم الغبار تبرع به الحاج محمد صالح الجوهرجي, وللشاعر الشيخ حسن سبتي قصيدة أرّخ فيها هذا العمل نقتبس منها هذه الأبيات:

قد تجلى لعليٍّ مـــــــــــرقدٌ نورُهُ يجلو الدجى والليــــــــــلُ داجْ
فوقَهُ صندوقُ قدسٍ خاتمٌ زانَهُ نقــش بإبريــــــــــز وعــــــــــــــاجْ
فوقَهُ ألقوا غشـــاءً حافظا من زجــــــــــــاجٍ مانعا عنهُ العَجَاجْ
يا لهُ صندوقَ قدس باهراً ساطعاً أَرّخَهُ (يغشاهُ الزجاج)(8)

وقد طال الضرر صندوق القبر الشريف بسبب الأعمال العسكرية الهمجية للنظام البعثي البائد حيث استباح المرقد المطهر عقب الإنتفاضة الشعبانية سنة 1411هـ/1991م. وعندما تم صيانة وتذهيب الشباك الفضي عام 1438ه/2017 م من قبل طائفة البهرة تم تجديد الزجاج المحيط بالصندوق الخاتم بنوعية ذات جودة ومواصفات عالية وزينت الجوانب بأشرطة ذهبية جميلة نقش عليها اسم علي (عليه السلام) مرصعاً بالياقوت الأحمر.

الهوامش:
(1) فرحة الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين علي عليه السلام:300-304.
(2) فرحة الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين علي عليه السلام:300.
(3) رحلة ابن بطوطة:177
(4) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث:1/44
(5) ماضي النجف وحاضرها:1/74.
(6) تاريخ النجف الاشرف: 1/442.
(7) ديوان السيد صادق الفحام: 266.
(8) مشهد الإمام علي في النجف: 1/185.

المصادر:
– فرحة الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين علي عليه السلام: عبدالكريم بن طاووس: 123-124. دار التعارف, بيروت, لبنان, 1431هـ.
– رحلة ابن بطوطة ( تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار): محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي (ابن بطوطة). دار صادر, بيروت, 1412هـ/1992م.
– لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث: علي الوردي. دار بهجة المعرفة, بيروت.
– ماضي النجف وحاضرها: جعفر محبوبه. مطبعة الآداب, النجف الأشرف, الطبعة الثانية, 1958م.
– تاريخ النجف الأشرف, محمد حسين حرز الدين: مطبعة نكارش, قم, 1427هـ.
– ديوان السيد صادق الفحام. تحقيق د. مضر سليمان الحلي. مطبعة فردوس, قم, 1434ه.
– مشهد الإمام علي في النجف وما به من الهدايا والتحف: سعاد ماهر. دار المعارف, مصر, 1388هـ.

نشرت في الولاية العدد 130

مقالات ذات صله