لغة القرآن العربية.. جمال خالد وحصار


م . م رضاء الحكيم

تعد اللغة، تلك الأداة التعبيرية التي تفصح عن مكنونات البشر والتي تمد جسورها ووسائطها بين الناس لتحقيق التواصل والفهم الانساني المطلوب، جزءاً لا يتجزأ من كينونة البشر منذ خلق، ترتبط بهم ارتباطا عضويا، تنمو معهم وتزدهر أو قد تنكمش وتحتضر مع تلك الجماعات الانسانية والأمم، ولعل أهم منجز بشري في كلا شقّيه المعنوي والمادي لم يخرج عن طوع اللغة أو إطارها وقد التي استطاعت احتواء الأفكار، شرّقت أو غرّبت، أو المشاعر والأحاسيس والأوهام والأحلام بكل شارد ووارد فيها، حتى اقتربت الى عوالم السحر والشعوذة والفعل الغيبي الخارق، فأصبحت تعاويذ وحروزا وطلاسم وتمائم تقي الانسان من كل كرب وسوء وحسد وشر النفاثات في العقد، تغور مع الانسان في ذلك السراب وتحلق معه في ذلك الغياب.

التواصل المتقن
ان جوهر الحياة لا يكشفه سوى لغة، فيها الكلمات تلبي حاجة المعاني والأحاسيس والعوالم المسكونة بالخيالات والرؤى والهواجس، أسماء وأفعال وحروف وإشارات تنصهر في بودقة القول لتعبر عن مكنونات من صور ورموز وكنايات وتشابيه ودلالات، فتزيح القشور والأغلفة وكل ما حجب عن ذلك البوح وما أعاق وصول ذلك المقصد والمعنى الى المتلقي.
وترتقي أساليب التواصل الانساني وتتنوع منذ النشأة الأولى ولعصرنا الحاضر، ولعل أكثر ما يلفت النظر بل ويؤثر بالإنسان هو، هذا القول المتقن، البليغ المبين، الجميل، الملامس لشغاف القلب، والمتغلغل بالروح والعقل في آن معا، ألا وهي لغة الأدب بما تحويه من فنون وأنساق شكلية مبدعة، ذلك المنحى الذي يجعل من اللغة أمرا أقرب الى الإعجاز أو السحر المبين.
شاهد الإعجاز القرآني
وفي حالات هبوط اللغة او تساميها معايير اكتشفتها المجتمعات الانسانية العاقلة والمتحسسة لأساليب التعبير اللغوي وأشكالها المبدعة، فميزت الغث عن السمين، والقبيح عن الجميل الحسن المعنى والصورة، البالغ في دلالته ووصفه، والكافي في بيانه وسهولة قطفه، فنشأت مدارس لتلك المعايير في كل لغة وأسلوب، ومناهج في كل طرائق الوصول الى معانيها ومراماتها، للوقوف على غائية الوجود التي تتمحور حول المرء وخالقه العظيم، فكان النقد حاكما فيصلا يلجأ إليه المتكلم في حياته وما أفاض من حسن كلام بعد مماته.
ولا شك ان بلوغ هذا المنحى الانساني في التواصل والتأثير والإقناع، لم يكن فاقدا لشاهد لإقراره، يجعل من هذا الحضور القاطع العزم والثابت الجنان والنافذ البصيرة مرتكزا انسانيا فاعلا متين الأثر والبنيان، أكثر من معجزة خالق الخلق حين أنزل كتابه العزيز (القرآن )، مصداقا على عظمة اللغة حين تصاغ بجميل الصنعة وروعة المتعة وبلاغة التفنان حين سخرت سحر البيان ورصانة البنيان وبهجة العرفان لهداية بني الإنسان. وكفى هذا الإعجاز شأنا أن يكون باعثا ودافعا وحافزا لتعلم الأعاجم لغة القرآن ( العربية ) فسبروا غورها وارتقوا في وصلها حتى علت بهم وضمنت فصاحتها من فيض سبلهم وتفننهم في عشقها واحتضان خصائصها البهية الملهمة للإبداع والتفرد، وقد نزلت كالأحجار الكريمة والذهب المصاغ بيد الرب الخلّاق البارئ، تستهوي كل ذي لب وقلب سليم.
آيات وخصائص فريدة
وما كان خيار ( الحكيم العليم ) للغة العرب الا لخصائصها الفريدة، في جمال حروفها، حينما تكتب وتقرأ وتسمع بل وحتى حينما تنطق، فتشكيل حروفها المدهش يتماهى مع لوحة فنان في الرسم والزخرفة والنقوش، تزين أي مكان توضع عليه، حتى ما كان زينة من ذهب وجواهر، وليس من موضع أبهى من بيت الله، جامع للمصلين والخشّع السجود، وحين تتسنم مكانها في كتاب الله العزيز الحكيم، ومن آيات لغة أهل الجنة هذه انها تنساب من فم الناطق بها ترانيم كالسلسبيل العذب، وما تسمع في تلاوة القرآن شاهداً لا يرد في حسن هذه اللغة وجمالها المدهش، فضلا عما نراه ونسمعه من فنون وآداب، تبرز فيه جماليات هذه اللغة، في الشعر والنثر والخطابة، في بوح فائق القدرة على التعبير على عمق المعاني ومكنونات النفس وما يختلج الروح من لواعج وصراعات وسكون، فقدرة هذه اللغة على التعبير تفوق ما موجود في اللغات الأخرى ، أما حين تكتب، ففنون كتابتها بحر زاخر لا أفق له ولا قاع، تتشكل حسب الهام الخطاط الفنان، كأنها إعجاز آخر ولا سيما حين ترتسم آيات للقرآن الكريم.
الارتقاء نحو الأدب لفهم الوجود
فأصبح الأدب هنا مسؤولية لفهم الوجود برمته لاتباع أحسن طرق العيش، للوصول الى السعادة المنشودة والمرامي المقصودة، لغاية النجاة عند خوض مدلهم البحور الكدرة، في الدنيا والآخرة، فتكون سمات الأدب ما تجاوز المكان والزمان الى ما يحيطهما من فهم ووعي وإدراك وإحساس، هو أصبح ملزما بهذا، لأنه عليه إتباع أحسن القول بعد أن سمعه ووعى أثره، فالعمل الأدبي ليس كلاما أو لغة فحسب، تجسد فيها الشعور والمعنى المقصود، هو حياة بكل أبعادها وكينونتها المفهومة وغير المفهومة، من هنا اقتضت الحاجة الى السعي نحو ادراكها والإحاطة بها، وقد يتعسر هذا الفهم، وتتعدد الطرق والمناهج، فتارة من خلال فهم التأثر بها من قبل المتلقي وتارة أخرى بتفكيكها واختراق بنيتها، أو من خلال دراسة ايقاعاتها وموسيقاها، أو بتحويلها الى أنماط رياضية ورقمية في معادلات قد تجيب عن تساؤلات الباحثين عن تراكيبها الحسية والكيميائية أو السيميائية.
تقاطعات وموانع وانكسار
وقد تعددت المناهج والآراء حول هذا الفهم لطبيعة النتاج الأدبي وقدرته التعبيرية، حتى اختلفت المناهج وتعددت الآراء وتضاربت، وتصاعدت في تشعبها فأصبح المنهج مناهج والمدرسة مدارس، وبهذا تكون قد تعددت وجهات النظر، ما أعطى الدارس للنتاج الأدبي وجهات نظر متعددة وآراء مختلفة تغني الرؤية والبحث، ولا سيما اذا ابتعدنا عن إقصاء منهج الآخر والأخذ بآراء تابعيه، كيلا نسقط في فخ فيه مقتل لتطور ونمو الإبداع النقدي.
فعندما نعد إحصاء أعداد الأسماء والأفعال بصيغها المضارعة والماضية والحروف والفواصل وعلامات التعجب والنقط ـ في نص ما ـ منتهى الفهم والمعرفة والإحاطة، في نظرية نقدية أدبية، تفسر العمل الأدبي وتقوم بتطويره، نكون قد ابتعدنا كثيرا عن غائية النقد ودراساته الفكرية والحسية والفنية، فتهنا في مسعى لا خلاصة مفيدة فيه ولا منجاة،
فيكون – هنا – الأدب بعيدا عن متطلبات الواقع وصورته الحية بعيدا عن كونه نتاجا اجتماعيا ضروريا للحياة والمعرفة وفهم الكون، فاللغة هي أصل الفكر والفن والأدب، متلازما معها قلبا وقالبا.
هذه العلاقة التي ينتجها الوجود عبر كيان اللغة، فنا وأدبا وفكرا، انما تعود مرة أخرى لتنتج هذا الوجود كمركب من مركبات بنائه المهمة والفاعلة في نمط الحياة وشكل ثقافتها، وفي زمن كانت الأمة الاسلامية أمة قوية، تأخذ منها الأمم الأخرى الغارقة في الجهل كأوربا آنذاك اذ انتشرت اللغة العربية الى تخوم الأرض شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، أما اليوم وبعد انكسار هذه الأمة وضعفها، أصبحت هي المتلقية للحضارات المتقدمة، فانزوت اللغة العربية وانكفأت،وتراجعت وتشوهت، إثر القهر المفروض عليها عبر مدة طويلة من التاريخ، والذي ترك آثاره القبيحة في روح هذه الأمة ولغتها الجميلة واقتصادياتها المتهالكة التابعة للمستعمر المزمن النكاية والتنكيل والغدر،فتصدت وانتشرت لغة العلوم والثقافات عند الأمم القوية، حتى تأسست تلك اللغات الأجنبية في كل الوسائل والقنوات التكنلوجية، ما سمح باستيلاء تلك اللغات ومصطلحاتها العلمية والتقنية على قاموس التطور في عموم الحياة.

نشرت في الولاية العدد 131

مقالات ذات صله