سيد الوفاء العباس بن علي(عليهما السلام)

أ.د. نـجم عبد الله غالي الموسوي / جامعة ميسان

((سَلامُ اللهِ وَسَلامُ مَلائِكَتِهِ الْمُقَرَّبينَ وَاَنْبِيائِهِ الْمُرْسَلينَ وَعِبادِهِ الصّالِحينَ وَجَميعِ الشُّهَداءِ وَالصِّدّيقينَ، وَالزَّاكِياتُ الطَّيِّباتُ فيـما تَغْتَدي وَتَرُوحُ عَلَيْكَ يَا بْنَ أمير الْمُؤْمِنينَ، اَشْهَدُ لَكَ بِالتَّسْليمِ وَالتَّصْديقِ وَالْوَفاءِ وَالنَّصيحَةِ لِخَلَفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ الْمُرْسَلِ، وَالسِّبْطِ الْمُنْتَجَبِ، وَالدَّليلِ الْعالِمِ، وَالْوَصِيِّ الْمُبَلِّغِ، وَالْمَظْلُومِ الْمُهْتَضَمِ، فَجَزاكَ اللهُ عَنْ رَسُولِهِ وَعَنْ أمير الْمُؤْمِنينَ وَعَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أفضل الْجَزاءِ بِما صَبَرْتَ وَاحْتَسَبْتَ وَاَعَنْتَ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ قَتَلَكَ وَلَعَنَ اللهُ مَنْ جَهِلَ حَقَّكَ وَاسْتَخَفَّ بِحُرْمَتِكَ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ حالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ماءِ الْفُراتِ، اَشْهَدُ اَنَّكَ قُتِلْتَ مَظْلُوماً، وَاَنَّ اللهَ مُنْجِزٌ لَكُمْ ما وَعَدَكُمْ، جِئْتُكَ يَا بْنَ اَميرِ اْلُمْؤْمِنينَ وَافِداً اِلَيْكُمْ، وَقَلْبي مُسَلِّمٌ لَكُمْ وَتابِعٌ، وَاَنَا لَكُمْ تابِـعٌ وَنُصْرَتي لَكُمْ مُعَدَّةٌ حَتّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمينَ، فَمَعَكُمْ مَعَكُمْ لا مَعَ عَدُوِّكُمْ اِنّي بِكُمْ وَبِإيابِكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنينَ، وَبِمَنْ خالَفَكُمْ وَقَتَلَكُمْ مِنَ الْكافَرينَ، قَتَلَ اللهُ اُمَّةً قَتَلَتْكُمْ بالأيدي وَ الألسن)).

ثمّ ادخل فانكبّ على القبر وقُل:
اَلسَّلامُ عَلَيْكَ اَيُّهَا الْعَبْدُ الصّالِحُ الْمُطيعُ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلاِة أميرِ الْمُؤْمِنينَ وَالْحَسَنِ والْحُسَيْنِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ وَرِضْوانُهُ وَعَلى رُوحِكَ وَبَدَنِكَ، اَشْهَدُ واُشْهِدُ اللهَ اَنَّكَ مَضَيْتَ عَلى ما مَضى بِهِ الْبَدْرِيُّونَ وَالُْمجاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللهِ الْمُناصِحُونَ لَهُ فِي جِهادِ اَعْدائِهِ الْمُبالِغُونَ فِي نُصْرَةِ اَوْلِيائِهِ الذّابُّونَ عَنْ اَحِبّائِهِ فَجَزاكَ اللهُ اَفْضَلَ الْجَزاءِ، وَاَكْثَرَ الْجَزاءِ، وَاَوْفَرَ الْجَزاءِ، وَاَوْفى جَزاءِ اَحَد مِمَّنْ وَفى بِبَيْعَتِهِ وَاسْتَجابَ لَهُ دَعْوَتَهُ وَاَطاعَ وُلاةَ، اَمْرِهِ اَشْهَدُ اَنَّكَ قَدْ بالَغْتَ فِي النَّصيحَةِ، وَاَعْطَيْتَ غايَةَ اْلَ مجْهُودِ، فَبَعَثَكَ اللهُ فِي الشُّهَداءِ، وَجَعَلَ رُوحَكَ مَعَ اَرْواحِ السُّعَداءِ، وَاَعْطاكَ مِنْ جِنانِهِ اَفْسَحَها مَنْزِلاً وَاَفْضَلَها غُرَفاً، وَرَفَعَ ذِكْرَكَ فِي عِلِّيّينَ، وَحَشَرَكَ مَعَ النَّبِيّينَ وَالصِّدّيقينَ وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحينَ وَحَسُنَ اُولئِكَ رَفيقاً، اَشْهَدُ اَنَّكَ لَمْ تَهِنْ وَلَمْ تَنْكُلْ، وَاَنَّكَ مَضَيْتَ عَلى بَصيرَة مِنْ أمرك مُقْتَدِياً بِالصّالِحينَ، وَمُتَّبِعاً لِلنَّبِيّينَ، فَجَمَعَ اللهُ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ رَسُولِهِ وأوليائه فِي مَنازِلِ الُْمخْبِتينَ، فَاِنَّهُ اَرْحَمُ الرّاحِمينَ)).
عند دراسة أي شخصية عظيمة وفذة في تاريخ الإنسانية لابد من الوقوف على مكوّناتها وخصائصها وصفاتها التي جعلتها تنفرد عن غيرها من الشخصيات الأخرى، وبذلك يتمّ تسليط الضوء على إبرز مكنوناتها الشخصية ولو بلمحة سريعة.
العبد الصالح، الأخ الناصح، المطيع، سيد الماء، وغيرها…. الأسماء كثرت والصفات تشعبت والمآثر تعدّدت وعجزت عن وصف شخصية سيدي ومولاي أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين علي(عليهما السلام)، فانحنى القلم وسجدت الحروف أمام هذه الشخصية الكبيرة والروح المتفانية والهمّة العالية التي انفرد بها هذا الشخص العجيب.
لا غرابة أن تكون شخصية العباس بن علي (عليه السلام) بهذه الصفات، ولا سيّما أنّه سليل الإمام علي (عليه السلام) وأمّه الطاهرة أم البنين(رضوان الله عليها) فجاءت تربيته متكاملة الأبعاد صقلت شخصيته وجعلت منه ذاك العبد الصالح ذا الصفات النادرة التي تميّز بها عن الآخرين، وأنّ أغلب الناس تعرف عن شخصية العباس من خلال واقعة كربلاء، لكن المتابع لشخصيته المباركة يجد أنّه يمتلك صفات الصلاح والفلاح منذ صغر سنه المبارك، وأنّه تربى على طاعة أولياء أمره من المعصومين (عليه السلام) وأنه يمتلك البصيرة التي جعلته تصل إلى عمق الأشياء وتبيين حقيقتها، فلا تستهويه غير مبادئ الحق وأسس الإسلام والإيمان ولا ينخدع بالسراب الزائل من هذه الدنيا الفانية.
فقد نشأ نشأة صالحة وتربية مقصودة عليها سمات طاعة الله ورسوله وآله (صلى الله عليه واله) ورضاهم والعلم والمعرفة تربية خالصة لوجه الله تعالى نبعت من سيرة أبيه وسيرة أمه حتى انعكست إيجابيا في تربيته فكان العباس (عليه السلام) ذلك البطل الذي أخضع كلَّ قوانين الأرض إليه وحطّم كلَّ أمثلة المحبة والطاعة والوفاء عندما أطاع أخاه الحسين (عليه السلام) إلى آخر نفس في جسده الطاهر.
ذلك العباس (عليه السلام) الذي أوقف قانون الجاذبية، فالإنسان الذي يعطش ينجذب نحو الماء ولا عذر في لومه إن شرب من الماء.. والعباس (عليه السلام) كان عطِشا ومجهدا و قلبه منكسراً من العطش، واقترب من الماء حاملا ذلك الجود الذي يأمل أن يرجع به مملوءاً بالماء الذي يروي قلوب الصغار والنساء ويحطّم عطشهم ويسقيهم به، وكان من الطبيعي أن يشرب من هذا الماء.. لكنّه توقف عن الشرب وأبدل ذاته العزيزة بقلوب الآخرين الظامئة واستكثر على نفسه أن يكون الماء ملامساً ليديه ويشعر ببرده فكيف به أن يجعله بين شفتيه الشريفتين.. هذا الوفاء الذي سجّله العباس(عليه السلام) جعل منه أسطورة ورمزا للوفاء إن أراد أحدٌ أن يجسم الوفاء، فما أروع الوفاء لو اقترن باسم العباس (عليه السلام).
كان الوفاء متجسداً في شخصيته الشريفة وإنّه أدرك تماما مبادئ الاخوّة والتضحية والشجاعة، ولابد أن نشير هنا إلى أنّ أوّل ثمرات الوفاء في سلوك العباس بن علي (عليه السلام) وفاؤه لدينه وللأئمة المعصومين (عليه السلام) المفروض طاعتهم، فهو في تعامله مع الإمام الحسين (عليه السلام) لا ينظر إليه كأخ، بل كان ينظر إليه على أنّه إمام معصوم واجب طاعته أولاً، وكأخ يستحق الفداء والوفاء ثانيا.
هذا الكم الهائل من الوفاء في شخصية العباس (عليه السلام) يجعله يعيش حالة ليست طبيعية وجعل الآخرين ينظرون إليه بأنّه فعلا ليس بشراً طبيعياً، فما صدر عنه من مواقف في أشدّ الظروف قسوة.. وفي أصعب اللحظات.. التي يبحث فيها الإنسان عن منفذ للنجاة بنفسه نراه يحرّكه الوفاء لدينه وإسلامه وإمامه ويتصرّف على وفق المنظومة التربوية الصحيحة التي تربى عليها، فيرفض كلَّ العروض التي قُدّمت إليه للتغرير به ولثني همّته وإبعاده عن الحسين(عليه السلام) لا لأنّه أخوه بل لأنّه يمثل الإسلام في وقته، فالحسين هو القرآن الناطق في الأمة في ذلك الوقت.. واعتقادهم أن إبعاد العباس (عليه السلام)عن الحسين (عليه السلام) سوف يثني عزيمة الحسين (عليه السلام) ويحقّق حلمهم وأملهم.
فكان التركيز على شخصية العباس (عليه السلام)؛ لأنّه الوفي الحقيقي والشجاع الباسل الذي لا يتنازل عن دينه وإيمانه، فلربما تبادر إلى أذهانهم باستمالة العباس إليهم بأمان زائف ومصطنع، لإيمانهم أنّه الساعد الأيمن للحسين (عليه السلام) وأن تحقّق أملهم باستمالة العباس (عليه السلام) -وهذا مستحيل- سوف يتمكنون من إضعاف الحسين (عليه السلام) وجعله وحيدا ومن ثمّ قد يحصلون على البيعة منه ليزيد اللعين وهيهات من ذلك وعلى رأي الحسين: (مثلي لا يبايع مثله).
إن كربلاء كانت محكّاً ومعياراً لكل ذوي النهى، فلا غرابة أن تتضخم البصيرة وتنفذ أكثر وأكثر في شخصية العباس بن علي (عليه السلام) وهو الصلب في إيمانه والقوي في ذات الله والشجاع الذي توارث شجاعته عن أبيه علي (عليه السلام) وتوارث من أمه النجيبة العفيفة الطاهرة حبه لأبناء السيدة الزهراء(عليها السلام).
فكانت كربلاء تجسيداً لصفات العباس بن علي (عليه السلام) الجسدية والنفسية، الجسدية (البيولوجية) بما توارثه من أبيه والنفسية (السيكولوجية) بما تربى عليه، فكان سيد الوفاء، ونعم الأخ المواسي لأخيه والمدافع عن الإسلام وعن أخيه.
مهما كُتب عن شخصية العباس بن علي (عليه السلام) تبقى هذه الشخصية مجهولة لدينا وغير معروفة لا يعرف كنهها إلا الإمام المعصوم (عليه السلام)؛ لأنّ شخصيته فوق العقول وما وراء معرفتنا البسيطة والسطحية ولا تفهم إلا بقراءة واقعية تفوق عقل البشر.
ويُعدُّ العباس (عليه السلام) الشخص المقرّب من الإمام الحسين (عليه السلام) لإيمانه ورجاحة عقله وسموّ نفسه ولوفائه ونصحه وطاعته لمولاه الحسين (عليه السلام)، وهذه الأمور لم تكن نابعة من مبدأ انصر أخاك ظالما أو مظلوما، بل كانت نابعة من إطاعة الحق والإيمان؛ لأنّ الحسين (عليه السلام) إمام معصوم يجب طاعته؛ ولأنّه يمثل رمز الحق في ذلك الوقت وهو امتداد جده رسول الله (صلى الله عليه واله) في التبليغ الإسلامي والحفاظ على بيضة الإسلام وكذلك لقناعة العباس (عليه السلام) بما خرج من أجله في إشاعة مبدأ الإصلاح ونبذ الظلم والفساد والعدوان.
إن شخصية العباس (عليه السلام) تبلورت فيها العظمة والشجاعة والبسالة والتفاني والإيثار فكان يؤثِرْ على نفسه وهو صغير يضحّي من أجل إخوته ويقدمّهم على نفسه، وأنّ أمه تقدّم أبناء الزهراء (عليها السلام) على أولادها، فالعباس ذو شأن عظيم وهو بذرة صالحة أوجدها الإمام علي (عليه السلام) وأم البنين (عليه السلام) وسقوها بالأسس التربوية الإسلامية الناجحة فأثمرت العباس بن علي (عليه السلام) رائد الإخلاص والعلم والمحبة والتفاني والتضحية والدفاع عن الإسلام وعن ولاة الأمر المعصومين الصادقين (عليهم السلام).
ومما يعطي شخصية العباس (عليه السلام) قدسية مستمرة وعنواناً دائماً لاسمه العملاق هو تصديق المعصومين (عليه السلام) الذين عاصروه على أفعاله وأقواله بدءاً بالإمام علي (عليه السلام) والإمام الحسن والحسين والسجاد والباقر (عليه السلام) ومما ينقل: أن الجميع قد أثنى على شخصية العباس (عليه السلام) وبعض المصادر التاريخية تشير إلى أن بعض المعصومين قبل يدي العباس (عليه السلام) وأولهم الإمام علي (عليه السلام) إذ قبل يديه الكريمتين وهو طفل صغير، فأية يد هذه يقبلها ويشمها أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فأي عطاء يكون في يده الشريفة، و أذكر أن أمير المؤمنين لم يقبلها لأنّها يد ابنه، نعم روح الأبوة موجودة بلا شك، لكنّ الإمام علياً (عليه السلام) نظر إلى هاتين اليدين بمنظار نصرة الحق ومساندته والدفاع عنه.

نشرت في الولاية العدد 132

مقالات ذات صله