د. علي مجيد البديري
تنبسطُ يدا السالك داعياً في اللحظةِ التي يفلتُ بها قلبُه من عتمةِ الذنبِ وغواية الغفلة ، مُنغمراً في فضاءِ الإقبال على الله جلَّ وعلا، وتزدادُ خصوصيةُ الحالةِ الفريدة هذه حين تُجسَّدُ التجربة شعراً، فيقفُ السالكُ الشاعر في محرابينِ ينفتحان على آفاقٍ مُتسعة : محراب العبادة وعشقها، ومحراب الشعر و وأجوائه. وليس الفصلُ ما بينهما يعني نفيَ التداخل، أو التجاور في أبسط الحالات، فنظرةٌ سريعة في الشعر الديني تكشفُ عن عمقِ التداخل ما بين الفعلين، متجسداً في مناجاة منظومةٍ أو قصائد تحملُ بعداً تأملياً عميقاً في الحياة والنفس وما يتعلق بأحوالِهما المختلفة.
ويحضرُ الموجهُ الخارجي للفعلين بشكلٍ فاعل، فمع (التوبة) مثلاً، وهي مقامٌ من مقامات السلوك والسير إلى الله تعالى، يستحضرُ الشاعرُ السالك جملةً من المأثورات الدينية في ذهنه، وهو يصوغ تجربته ويجسّدُ حالته شعراً؛ فالتوبة تعني ترك مخالفةِ الحقِّ تعالى والعودة إلى موافقته، وترك الذنب، وعدم العودة إليه أبداً.
و يرى فيها السالكون مقاماً يلازمُ العبدَ طوال حياته، وعند امتزاجِ الفعلين يتشكلُ درسُ التوبة عبر هذه الكلمات :
إلى كَم أَنتَ في بَحرِ الخَطايا تُبارِزُ مَن يَراكَ وَلا تَراهُ
وَسَمتُكَ سمَتُ ذي وَرَعٍ وَدينٍ وَفِعلُكَ فِعلُ مُتَّبَعٍ هَواهُ
فَيا مَن باتَ يَخلو بِالمَعاصي وَعَينُ اللَهِ شاهِدَةٌ تَراهُ
أَتَطمَعُ أَن تـنالَ العَفوَ مِمَّن عَصَيتَ وَأَنتَ لم تَطلُب رِضاهُ
أَتـَفرَحُ بِـالذُنـوبِ وبالخطايا وَتَنساهُ وَلا أَحَدٌ سِواهُ
فَتُب قَـبلَ المَماتِ وَقــَبلَ يَومٍ يُلاقي العَبدُ ما كَسَبَت يَداهُ
ولاشكّ في أنَّ هذا الفهمَ للتوبة صادرٌ عن رؤيةٍ منشغلة بتأملِ الفيض الإلهي ومدياته، فالأبيات توضحُ في بعدِها الآخر سترَ الخالق الذي يلقيه على عبدِه السّادر في جهلِه وغيِّه، فهو سبحانه الشاهدُ على عبادِه والحليم الذي لا يؤاخذهم بقبائحِ أفعالهم، يمهلُهم ويفرحُ بأوبتهم وتوبتهم.
ونرى مبتدأ التوبة في مطابقةِ الظاهرِ للباطن؛ فالنيةُ أصل العمل، وفي ذلك نسمعُ أصداءَ قولِ أميرِ المُؤمنينَ (8) في التوبةِ وهو يضعُها على أربعةِ دعائم: ((ندمٌ بالقلب، واستغفارٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح، وعزمُ أنْ لا يعود)) ( البحار: 78). إنه الرجوعُ من أحكامِ الطبيعةِ وآثارِها إلى أحكامِ الرَّوحانيةِ والفطرة ، فحقيقةُ الإنابةِ هي الرجوعُ من الفطرةِ وروحانيةِ النّفس إلى الله.
الاستغفار عند علي(عليه السلام)
ونسمعُ كذلك صوتَ الإمام عليه السلام في بيانِ شرائطِ التوبة حينما سَمعَ شخصاً يستغفرُ اللهَ، فقال له : ((ثكلتك أمُّك أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفارَ درجةُ العليين وهو اسمٌ واقعٌ على ستِ معان: أولُها الندمُ على ما مضى، والثاني العزمُ على تركِ العودِ إليه أبداً، والثالثُ أنْ تؤدي إلى المخلوقينَ حقوقَهم حتى تلقى اللهَ سبحانه أملسَ ليس عليك تبعةٌ، والرابع أنْ تعمدَ إلى كلِّ فريضةٍ عليك ضيعتها فتؤدي حقها، والخامسُ أنْ تعمدَ إلى اللحم الذي نبتَ على السُّحتِ فتذيبه بالأحزانِ حتى تلصقَ الجلدَ بالعظم وينشأ بينهما لحمٌ جديدٌ، والسادسُ أنْ تذيقَ الجسمَ ألمَ الطاعة كما أذقته حلاوةَ المعصية))(نهج البلاغة: 97)
لا غرابةَ إذن حينَ نمرُّ في هدأة الليلِ بمحرابِ عابدٍ ملتاعٍ ونسمعُه يئنُّ قائلاً: «إلى متى أصرخُ من أفعالي؟ وإلامَ أهربُ من عملي شاكياً منه، وكيفَ أتذكرُ ذاتي بعدَ اقترافي الآثام» ؛ إذ تضجُّ الأسطرُ هنا بمرارةِ التساؤل عن طولِ أمد الهروبِ من الذنوب ، في مقابلِ استمرارِ عطاء الله ونعمه ، فصوتُ العارف هنا يشعر بعدمِ اكتمال الإقبال على الله ، وعدمِ أهليته ـ كعبدٍ مذنب ـ لذلك ، وتبلغُ الحالةُ شدتها حين يغدو الشعورُ بالذات ، مُنعدماً بسببِ الآثام . وتشفُّ الكلماتُ عن شعورِ العارفِ بالاغترابِ النفسي، وثقل الروح وهي تجاهدُ الحزونَ الصعبة ، والحُجبَ الكبيرة في طريقها إلى الله .
عرفان الشاعر ومعرفة العالم
وهنا تنصهرُ الرؤيتان (رؤية المعرفة ورؤية الشعر) وتتجهان صوبَ الندم على ما مضى، والعزم على عدمِ الرجوع لظلمات الغفلة، بوصفِ الندم والعزم ركني التوبةِ ودعامتيها الضخمتين. ويعمدُ السالكُ إنْ اجتمعتْ فيه المعرفةُ وموهبة قولِ الشعر إلى كتابةِ لوعتهِ تلك شعراً، مضمناً إياها أبعاداً عميقةً ، فهو يحاولُ الاقترابَ من موضوعاتِ النَّفس وأحوالها من خلالِ لغةٍ ملتاعة تحاولُ قدر استطاعتِها التخلصَ من أغلالِ الدلالات المُستهلكة التي ارتبطتْ بموضوعاتٍ دنيوية، لتقتربَ من لغةٍ أخرى تسعى إلى التزوّدِ بالطاقة الباطنيةِ التي تضيءُ الحجبَ وتكشف ظلماتِ النفس ، وهو ما يجعلُ من التجربةِ الشعرية للشاعر العرفاني تمتازُ بتأكيدِها على فضاءِ العلاقة مع الخالقِ تبارك وتعالى ، ومراحل السير إليه.
لا شكَّ أنّ الشاعرَ الذي هزتْ أبياتُه نفوسنا، لم يكن غافلاً عن طاقاتِ الشعرِ وإمكانياتِهِ في تجسيدِ التجاربِ الخاصة وتشكيلها عَبر الكلمات، وكذلك يكون المتلقي فهو لا يخفى عنه أنّه يقفُ أمام الشعر بكلِّ مزاياه الجمالية، وأنّ نجاحَ التجاربِ التي تجمعُ ما بينَ المعرفي والشعري فيه ليس أمراً مطلقاً ، فهو مشروطٌ بتوفرِ ضروراتِ الإبداع الأخرى؛ فحين تتوقفُ موهبةُ الشاعرِ العارفِ عند حدودٍ معينةٍ لا تسعفُه فيها أدواتُه على كتابةٍ فاعلةٍ ومتميزة ، يغلبُ على صوتِهِ صوت العالمُ العارف، إذ تتوجه كلماتُه بشكلٍ أفقيٍّ صوبَ لغةِ البيان المستقرة، وتصيرُ الغايةُ هي البيانُ والإفهام ولا تتمكن اللغة من أنْ تحملَ قدرةً حقيقية على تجلية الشعور الباطني، لأنَّ العالم العارف عطّلَ طاقةَ التخييل واكتفى بالنَّظم والتعبير المباشر.
ويبقى سؤالٌ مفادهُ : إلى أي حدٍّ تبلغُ مساحةُ التوبةِ حين يشتركُ المعرفي والشعريُّ على بيانِها وطبيعةِ مراحلِ تشكلها؟
سأَدَعُ القارئَ يضعُ إجابتَه الخاصةَ بهِ، فهو مشتركٌ في الفعلينِ تلقياً وإعادةَ إنتاجٍ ، وهوَ الطرفُ الفاعلُ في تجديدِ مضامينِ القول..
نشرت في الولاية العدد 134